عن شعوب حي الجديدة في حلب!

عن شعوب حي الجديدة في حلب!


عن موقع القدس العربي بقلم حسن داوود
www.alquds.co.uk
-

قبل أن تشرع لينا هوْيان الحسن بكتابة السطور الأولى، حرصت على تعداد أسماء الشخصيات والتعريف بها، شأن ما يفعل كتاب النصوص المسرحية. وكان هذا مفيدا لقارئي روايتها، بالنظر إلى المساحة الزمنية الشاسعة التي تغطّيها أحداثها، كما لجمعها ذاك القدر الضخم من تواريخ أولئك المقيمين في حي الجديدة الحلبي.
تلك التعاريف بدت مفيدة، من ناحية أخرى، كون ما يطغى على الرواية هو الطابع الملحمي، إذ ليس أبطال الرواية هم وحدهم من يحملون ثقل مأساتها، فمعهم في ذلك أهلهم، أو الجيل الذي سبقهم. هكذا بدت بيلا بكتاش، الأذرية الصماء، شخصية كاملة البطولة، رغم أنها قضت مقتولة في نهاية الثلث الأول من الرواية. لم تكن حياتها مجرد حلقة لاتصال السرد إلى الجيل الذي جاء بعدها، بل بدت كأنها تختتم روايتها الخاصة، أو جزءها الخاص بها من الرواية. ومثلها أيضا مجايلتها ناديا، التي آثرت أن تكون مأساتها كاملة، إذ قبل أن تبدأ حياة من جاؤوا بعدها بالتعقد، ألقت بنفسها من سطح كاتدرائية الأربعين شهيدا. آخرون أيضا انتهوا كذلك، في ما هم يهيّؤون ركائز الحياة الصعبة لمن سيأتون بعدهم، أو لمن يخلفونهم. من هؤلاء كيفورك، المصوّر الأرمني الذي ترك ابنته سيسي وحيدةً تصارعُ، في بلد غير بلدها، وفي عالم ليس عالمها، إرث هويتها الثقيل.
كان مفيدا ذلك الرجوع إذن إلى صفحة التعريف التي تتقدم صفحات الكتاب. ليس من أجل العودة إلى أسماء الشخصيات، بل للتعرف إلى مناشئها أيضا. فهؤلاء المقيمون بداية في حوش الأجقباش في حي الجديدة الحلبي، كانوا قد جاؤوا من بلاد مختلفة كثيرة، ومن مآس ومجازر لا تقل عددا. بيلا بكتاش أذرية فرّت من اجتياح الروس لبلدها وبيعت بعد سبيها. سيسي بابايان أرمنية سليلة ناجين من مجزرة، شمسي ميرزا آغا شركسي، مراد سعيد يهودي حلبي، الخياطة ميرفت قدمت من البوسنة، كما بين المقيمين هناك، سواء في الحي أو في ما حوله، تُذكر أسماء بلدان وأقوام بينها الشركس والسريان والرومان واليونان والأكراد والروس، وأيضا الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، حيث كانت صبايا حي الجديدة يرسلن صورهنّ. ولنضف إلى ذلك وقائع السياسة ورجالها: تيتو وهتلر وموسوليني وستالين، وأيضا أديب الشيشكلي وحسني الزعيم وعبد الحميد السراج وفخري البارودي. لم تتوقف الرواية عن الاتساع ضامّة إليها كل ما يتعلّق بالعلامات الراسخة لذلك الزمن المأساوي الطويل.

وهي ملحمية الطابع لكونها تبطئ الجريان الحدثي، وتغلّفه بتأمل أدبي يحرص على تصويره شعريا وتفصيليا. مثال على ذلك هذا المطلع لأحد الفصول «السرب بأكمله حلّق. لحظة صاخبة، رفرفت فيها كل الأجنحة. حملت السرب إلى الأعلى، وانتظم خلال ذلك وعاود تحليقه من جديد، مخلّفا وراءه طائرين أسقطتهما بندقية رفقي بك». لسنا هنا إزاء تتبع الوظيفي في السرد، أي في ما تجري ملاحقته من حوادث ومصادفات، بل في هدأة التأمل الممتدة على مدار الرواية. فغالبا ما تمرّر الرواية حدثا أساسيا في فقرة أخيرة من المقطع السردي. جملة واحدة تُترك لتقال في نهاية الكلام، لتنقل هناك ما سيكون مفاجئا، وإن سعت الكتابة إلى تبريده. من ذلك مثلا مصرع بيلا بكتاش، الذي تأخر سماع طلقته جيلا كاملا، أي ان القارئ تبلّغه جرعة صغيرة إثر جرعة صغيرة أخرى، ليكتمل العلم به قبل مقاطع من ختام الرواية.

أما ما يحدث فقليل، تلك القبلة التي تلقتها سيسي من تيمور وهما بعد صغيرين في الأجقباش، تظل حاضرة متذكَّرة في الرواية كلها، ثم تلك التفاصيل الصغيرة التي حملها جميع من كانوا هناك إلى البلدان التي توزعوا بينها. فما جرى كان قد جرى في الماضي. أما الجيل الأخير هذا، القليل عدد أفراده، فيعيش في التذكر وفي الخيبة التي تتأتى من التذكّر.
لا يقتصر ذلك على مأساة الجيل الأسبق، بل على ما صار تاريخا خاصا لكل من الجماعات التي تنتمي إليها الشخصيات. ذاك أن الجميع مثقل بتاريخه، ينوء بسطوته. «كيف نتخلّص من تاريخنا؟ ما أسعد تلك الشعوب التي ليس لها تاريخ البتة». يقول أحدهم. ثم ها هي سيسي بابايان تتساءل، في ما هي تقود سيارتها خارجة من مدينة حلب في اتجاه خناصرة الأحص، حيث قُتلت بيلا بكتاش قبل جيل: «أي تاريخ تورّطَت به هذه الأرض القفراء، أعبر ضياعا لشعوب تعيش على آثار شعوب أخرى وخرائبها».
أما مراد، اليهودي، فكتب في رسالة إلى سيسي (وهما اللذان انتهت الرواية بتبادل رسائلهما الطويلة التي كانا يرسلانها من مكاني إقامتهما البعيدين)، «ما أروعنا لو أننا خلقنا بلا جذر! ولا جذع، بلا ذلك العناق المشؤوم للماضي». في مكان آخر يعلن مراد انضمامه إلى التواريخ التي سبقت، وذلك عندما علم أنه بات على اليهود أن يرحلوا عن البلدان التي يقيمون فيها. وها هو، من مانهاتن، يكتب أنه محبوس في أزقة حي البندرة، وحي الجديدة، وحي الجميلية، ويتساءل: لماذا يتجوّل الماضي مثل مريض الجذام، عليه أن يحمل جرَسا صغيرا ليحذر الناس من حضوره الثقيل».
بكفاءة ودأب نادرين أرّخت الحسن، روائيا، لبشر لم تشأ أرض نجاتهم إلا أن تكون محطة مؤقتة، لافظة وطاردة لهم، كأن من أجل ألا تتوقّف سير هؤلاء ولا تستقر.
*رواية لينا هوْيان الحسن «ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلا» صدرت عن دار الآداب في 295 صفحة – سنة 2019.