"ميثاق النساء" لحنين الصايغ: طليعية بمراس السرد وشجاعة في قول المسكوت عنه

"ميثاق النساء" لحنين الصايغ: طليعية بمراس السرد وشجاعة في قول المسكوت عنه

جمانة حداد

 

لا يمكن مطالعاً خبيراً أو ناقداً متمرّساً أن يدخل عوالم رواية "ميثاق النساء" ("دار الآداب"، 2023)، وهي الباكورة الروائية للشاعرة اللبنانية حنين الصايغ، من دون أن يجد صعوبة في التصديق أنه عمل روائي أول، لفرط متانة لغته، وسلاسة أسلوبه، ومِراس السرد الذي يتجلى فيه، وشمولية القضايا الإنسانية التي يعالجها أو يظهّرها، والتقنيات الروائية المسخّرة لصوغ حبكته، التي تكاد تشد القارئ من شعره وتجبره على متابعة القراءة صفحة بعد صفحة. نحن، إذ نقرأ "ميثاق النساء"، لا نقرأ فحسب، بل نغوص، كمن رُبِط وعيه بثقّالات، وهذا الغوص من أروع التجارب التي تتيحها لنا بعض الكتب- بعضها فقط. نتخلى عن واقعنا تماماً، برضانا وحتى أحياناً رغماً عن أنوفنا، ونذهب مع الراوية الى حيث تريد أن تأخذنا. وهذا بالضبط ما تفعله بنا أمل بو نمر، بطلة "ميثاق النساء" التي، بحسب الغلاف الخلفي للكتاب، "تعيش حياة ريفية محافظة في قريتها الدرزية في جبل لبنان، حيث يهرب العديد من أسئلة الحياة الى التديّن والعزلة".

لا تنحصر أهمية "ميثاق النساء" في جرأتها الاستثنائية في كسر الممنوع، وقول المسكوت عنه، والكشف عن "المكنوس" بعناية تحت سجادات العائلات والبيئات والمجتمعات المحافظة. كذلك، لا تنحصر أهمية "ميثاق النساء" في كونها الرواية الأولى التي تتناول المجتمع الدرزي اللبناني المعاصر من "داخل"، وتحديداً من وجهة نظر امرأة، أي أنها رواية طالعة من صلب معيش هذه المرأة ومن لحمها ودمها وواقعها وهواجسها وتفاصيلها، ولكن – وهذا إنجاز في ذاته- من دون أن تقع مرة واحدة في فخ التعميم عن الدروز. أخيراً، لا تنحصر أهمية "ميثاق النساء" في أنها، أيضاً وخصوصاً، رواية نسوية توثّق رحلة انعتاقٍ مضنية ومريرة وشبه مستحيلة، من ألفها الى الياء، لإنسانة لا تطالب بسوى حقوقها البديهية: حقها في أن تتابع تعليمها، حقها في أن تحقق طموحاتها، حقها في أن تختار من تحب، حقها في أن تملك جسدها والقرارات المتعلقة به، حقها في كرامتها وحريتها وسيادتها على حياتها: حقها، في اختصار، في أن تكون إنسانة.

كل النقاط التي ذكرتُها في ما سبق مهمّة جداً بالطبع، وتُسجَّل للكاتبة وكتابها، لكنّ أهمية هذا العمل الأساسية، في رأيي، تكمن في قيمته الروائية الرفيعة، وهي، أي هذه القيمة، ما يستحق الإضاءة في الدرجة الأولى عند مراجعته. إذ من السهل جداً أن يركّز المرء على خصائص جذابة كـ "الشجاعة"، و"الاختراق"، و"الفضح"، و"الشفافية" (وهي كلها، في المناسبة، أكثر من حاضرة ولافتة في "ميثاق النساء"). ولكن من شأن تركيز مماثل أن يضع هذه الرواية بصفتها "عملاً أدبياً"- أي بمعزل عن موضوعها المثير وسقفها العالي- في موقع هامشي لدى الحديث عنها، وهو ما يشكّل ظلماً كبيراً للعمل، الذي تتخطى مكانته جسارته، وتيماته، وجغرافيته، وبيئته، وبلده، وشخصياته.

تبدأ الرواية مع أمل ترتكب فعل تمرّد "عظيماً": هي في طريقها من ضيعتها عينصورة الى بيروت، لتتسجّل في الجامعة الأميركية رغم معارضة زوجها، وعائلتها، ومجتمعها. فهي تنتمي الى عائلة محافظة وتقليدية جداً من طبقة المشايخ، أفق البنات فيها ضيق جداً. هكذا تضطر أمل، في السادسة عشرة من عمرها، أن "تشتري" مستقبلها مقابل ثمن هو حريتها. إذ إنها تتزوج بسالم، شرط أن يوافق على إكمالها تعليمها بعد الزواج، وهو ما كان ليكون ممكناً لو بقيت تحت سقف والدها الحدّاد، الشيخ علي، وعالمه المحدود، ومحظوراته الدينية الخانقة. فصلاً وراء فصل، وحرباً وراء حرب، وطعنة وراء طعنة، نرافق أمل في رحلة معاناتها مع زوج لا يجمعها به أي خيط، ومع عائلة تحبّها لكنها هي الأخرى، لا تمت إليها بصلة، ووسط حياة لا تشبهها في شيء. كأن أمل من كوكب آخر، أسقطت إسقاطاً على هذه البيئة وهذا المجتمع، وعليها الآن، في هذه الحياة بالذات، أن تخترع هي الطريق لتطلع من هاويتها، وأن تحفر نفق خلاصها بأظفارها، وذلك رغم خوفها "الذي لم يعرف يداً ولا صوتاً مطمئناً". وهذا ما تفعله، لاءً جريئة وراء لاء، وانتصاراً متواضعاً تلو انتصار، كمثل نملة لا تكل ولا تتوقف حتى تصل. وتصل.

بدءا من قصة جدّها وجدّتها اللذين عاشا ثلاثين عاماً يفصلهما جدارٌ دون أن يراها أو تراه، لأن الأول طلّق الثانية في لحظة غضب فصار محرّماً عليه أن يرى وجهها، وصولاً الى قصة شقيقتها نيرمين التي تتخلى عن زوجها وحب حياتها جاد، أيضاً لأسباب دينية تبدو للوهلة الأولى سوريالية، مروراً بعشرات القصص الأخرى، نكتشف كيف يسمم الالتزام الديني المتطرف حياة الناس ويحرمهم من أبسط فرص السعادة، لكأنه موجود لمعاقبتهم لا لإثراء دواخلهم. لكنّ أمل لا تدين مجتمعها، لا توجّه أصابع اللوم الى عائلتها، لا تعاتب ولا تشتكي ولا تقع، خصوصاً، في ميوعة الدراما: هي، فقط، تبوح وتصف. هي، فقط، تضع الإصبع على الجرح، وتحرّكه فيه. تحرّكه حتى نصرخ، نحن القرّاء، آخ. لأننا فقط، بتلك الآخ، نستطيع أن نشعر. أن نرى. أن "نفهم".

تمسك حنين الصايغ بيد قارئها جيداً من أول الكتاب الى آخره، وإذا شعرنا أحيانا بأنها ترخي قبضتها قليلاً، فهي إنما تفعل ذلك فقط لكي تمنحنا بعضا من متعة التكهّن والتوقّع والاختراع، ولكي تشعرنا، نحن المتورّطين في روايتها، بأننا شركاء في وليمة كلماتها. هي تكتب كمن يتنفّس، أو لعلها تكتب لكي تتنفّس، وتعبّر عن غنى الشخصيات وتنوّعها وتشابكاتها بلغة بسيطة في متناول الكلّ، لكنها في الوقت نفسه عميقة عمق الصمت في غصّة روح تختنق. ما إن نفتح كتابها هذا حتى يطلع لنا منه عالم بكامله، عالم – زوبعة "يشفطنا" شفطاً إليه. أما الشِعر، شِعر الشاعرة، فحاضر دائماً في المتن، نستشفه في جملة من هنا، أو فكرة من هناك، ونمتلئ.

صحيح أن "ميثاق النساء" تروي قصة فتاة لبنانية درزية، لكنها تعني الكائن البشري أينما كان ولأيّ مجتمع وثقافة ومعتقد انتمى، لأن الكاتبة، بقدر ما تشتغل على حماية "محلية" قصتها بواسطة تفاصيل المكان والزمان والدين والبيئة والطبقة الاجتماعية والظرف...الخ، تشتغل كذلك على شخصية الانسان المسحوق تحت ثقل واقعه، على مشاعره، وطباعه، وتناقضاته، وعذاباته، وعجزه، ومخاوفه، اي على كل ما يؤلف النواة التي يتقاسمها بنو البشر (وخصوصاً بناتهم)، أكانوا من دروز جبل لبنان أم من المقلب الآخر من الكرة الأرضية.

"يا لعذوبة أن نريد شيئاً بقوة وتهبنا الحياة فرصة لنخطو ولو خطوات صغيرة في اتجاهه"، تقول أمل بو نمر في إحدى صفحات الرواية. حقاً. ويا لعذوبة أن يكتشف القارئ أنه رغم كل هذا العذاب، ظلّ الحب ممكناً: الحبّ الذي أضاءته رحمة، ابنة أمل، في قلبها وحياتها، والحب الذي تدفق عليها من حامد، الرجل الذي بفضله، أصبح تحديق أمل في سقوف الغرف- وهي العادة التي كانت تحترفها لكي تهرب من جدرانٍ تأسرها- "نافذة على حديقة الله".   (جريدة النهار 19/10/23)