يمنى العيد «أرق الروح»، عندما يكتب الكبار

يمنى العيد «أرق الروح»، عندما يكتب الكبار
يمنى العيد «أرق الروح»
عندما يكتب الكبار



عندما انتهيت من قراءة آخر صفحة في كتاب «أرق الروح» الذي أعطته الكاتبة مسمّى «سيرة» داهمتني المشاعر الفيّاضة ذاتها التي كانت تغمرني عندما أنتهي من قراءة رواية لـ «وليم فولكنر» أو فرجينيا وولف أو للسيرة الذاتيّة لـ «بابلو نيرودا»، أو لأيّ نصّ شعري فائق النضوج الإبداعي. إنّها مشاعر ألم الانسحاب المفاجئ من متعة الانتشاء الذي يتوهّج بالروح بصحبة الروائع الأدبيّة التي كتبت بحرفيّة عالية ودراية شاملة بعناصر الإبداع الفنّي المرئي في السطور, واللاّمرئي الخافي في أعماق جسد النصّ. في قراءة أولى للسيرة «أرق الروح» قد يتراءى للقارئ أنّ للنصّ بطلاً وحيدًا هو: كاتبة النصّ بلا منازع. فقد تبوّأت المؤلّفة يمنى العيد على مدى السيرة بكاملها موقع: الرائية, والراوية, والمؤرّخة, وكاتبة السيرة المتحدّثة بصوتها.
لكن هذا النصّ المتعدّد الهويّة، والجامع لأكثر من نمطٍ سرديّ يمحو الحدود بين أجناس الكتابة, بكونه يتجاوز السيرة الذاتيّة, إلى الرواية, إلى الكتابة بلغة العشق الصوفي, إلى البوح الدرامي الرومانسي المرهف, كلّ ذلك يفجّر في النصّ أصواتًا وأصداءً تتعالى من أزمنة مضت لتتقاطع وتتصادم مع الزمن الحاضر، وتصعد لتتصادى في الأمكنة لتحاسب الأفكار والشخوص التي تتنازع البقاء في العالم ما بين الذي مضى والذي سيأتي.
بالنسبة لقراءتي لهذا النصّ السردي الواحد المتعدّد على صعيد الأمكنة والأزمنة والشخصيّات التي تروي صراعها مع الذات والآخر, ومغالبتها للموت بشتّى أشكاله انتصارًا للحياة والتفوّق, والمدن التي تحدّث عن نفسها عبر وسيطٍ هو الراوي، وتخبر عمّا شهدته وعايشته ومارسته من صمود وانكسارات وتجاوزات, فقد رأيت أنّ البطل الأوّل والأكثر محوريّة واستقطابًا للقارئ وكاتبة النصّ على حدٍّ سواء هو «مدينة صيدا». أمّا صوت الكاتبة الذي هيمن على كلّ صفحة وكلمة في النصّ، فما جاء إلاّ ليحدّث عن «صيدا» ويروي عنها ولها.
لقد أتت المؤلّفة في نصّها على ذكر ثلاث مدن رئيسة: «باريس» عاصمة النور والفكر والأدب والفنّ والثقافة والفلسفة والجامعات الكبرى. إلاّ أنّ هذه المدينة نالت في النصّ حضورًا عابرًا يقتصر على كونها المدينة الحلم التي تحلم الكاتبة بالدراسة العليا فيها للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، إلاّ أنّ باريس مدينة الفنون العالميّة والمتاحف والساحات والتماثيل والنوافير والحيّ اللاتيني وحاضنة الحرّيّة وحقوق الإنسان، لم تحظ في النصّ بأكثر من إشارات عابرة لا تتجاوز بعض الجمل.
المدينة الثانية هي «بيروت» عاصمة الوطن الذي تحبّ, وحاضنة الحرّيّة وتعدّد الثقافات والطوائف والجامعات. بيروت التي لُقِّبت بسويسرا الشرق لجمال طبيعتها الخارق، والتي كانت بسبب العديد من دور النشر وحرّيّة التعبير تمثّل للكتّاب والمبدعين الرئة التي يتنفّسون بها بعيدًا عن رقابة حكوماتهم.
بعد الاستقلال في لبنان, وتسارع حركة الحداثة والتطوّر وانتشار المدارس في بيروت وصيدا وباقي المدن والقرى اللبنانيّة، سترسل أسرة الكاتبة ابنتها إلى مدرسة راهبات داخليّة في بيروت لإتمام دراستها الثانويّة, ومن ثم الانتساب إلى الجامعة اللبنانيّة التي تأسّست 1951 م. في بيروت والجامعة ستحظى يمنى بكثير من الحرّيّة بعيدًا عن تزمّت الأهل والمجتمع الذكوري في صيدا, وستتعرّف على حرّيّة المشي في الشوارع رفقة الحبيب (الزوج فيما بعد)، وعلى حضور الندوات الأدبيّة والمحاضرات الأدبيّة والسياسيّة, وستحظى بحرّيّة اختيار الزوج والتيّارات الفكريّة والتوجّه الحزبي السياسي اليساري، واختيار السكن في عدّة أحياء في بيروت, ولكن كلّ ذلك لن ينسيها حبّها الأوّل, بل عشقها الصوفي لمدينتها الأمّ: صيدا. ففي الليلة الأولى التي ستنام فيها في بيت الزوجيّة في عين الرمّانة، وقبل أن تغفو انهارت دموعها, وقالت لنفسها: «شعرت بالغربة كأنّي لست كما تمنّيت أن أكون بعيدة ومستقلّة عن أهلي. كأنّي لست في بيروت التي أحببت, ومع الشخص الذي أحبّ, وفي البيت الذي أحللنا الربيع في أرجائه بألوان زاهية. تسرّبت الوحشة إلى نفسي. كنت مثل مولود قطعوا له حبل سرّته فبكى. أو مثل طفلٍ فُطم عن ثدي أمّه فبكى. كأنّي ما زلت مربوطة بذلك الماضي بكلّ ما يعنيه من حنين إلى المكان وأهله. إلى الرحم. إلى القوقعة التي اختلطت فيها الأحلام بالأساطير.» هذه الصبيّة اليافعة تؤرّقها الأسئلة الباحثة عن سبب شعورها بالوحشة والغربة وعدم الرضا؟ ما سبب الدموع؟ هي من اختارت الحبيب, والدراسة الجامعيّة، وبيروت, وسوف تعمل وتختار عملها, ولكن هل يكفي أن نختار حتى تستقيم أمورنا؟
هذه أنا هنا.. وهذا خياري... تقول.
هل هو الزمن الذي نستسلم له كقدر؟ أم أنّها الخيانة العظمى؟ الخيانة التي اقترفتها: «عندما آثرت القطع مع أهلي ومدينتي وتواطأت مع ذاتي كي أُرضي تمردي ورفضي؟».
إذن، الرحيل عن صيدا كان خيانة عظمى؛ وكان تواطؤًا مع ذاتها الأنانيّة التي تريد إرضاء تمرّدها ورفضها.
بناءً على ذلك وسواه قلت: إنّ يمنى مسكونة بصيدا لا ساكنة فيها. وقلت: إنّ البطلة المحوريّة في النصّ هي صيدا التي تتحدّث بصوت يمنى لا بصوتها هي.
ابنة صيدا وُلدت مسكونة بالأحلام والدوافع والطموحات ومساءلة المجهول. هذه الطاقة الضاغطة والمفعمة بالحيرة وضياع الأجوبة تتلاطم في صدرها كبحر هائج، تلحّ موجاته على تعذيبٍ يسوط دواخلها، فتسمّيه الكاتبة «الجمر في داخلي» وهذا الألم الذي يتوالد منه وجع ملازم لا يبرح ولا يتوقّف تسمّيه الكاتبة «أرق الروح».
إنّه وجع يؤلم ويحرق بصمت وهدوء ينطوي على خوفٍ وقلقٍ وعلى كلام لا تبوح به إلاّ لنفسها: «أودّ أن أخرج إلى الحياة, حياة بلا حدود، حياة أكثر من الحبّ, أكثر من عيش في بيت واستقبال أصدقاء أُصغي إلى نقاشهم، أكثر من... من... لا أدري».
هذه الصبيّة العروس, ذرفت الدموع ليلة زواجها معلنة عن حنين صوفي وحبّ مرضيّ للأهل والأمكنة في صيدا. حنين يحمل وجع الانفصال عن المعشوقة الأولى والأخيرة: صيدا. كلّ الحرّيّة في هواء بيروت وجبالها, وكلّ الأنوار التي تضيء بيوت بيبروت وشوارعها ومقاهيها، لن تطفئ لهيب الحنين إلى حارات صيدا المعتمة التي كانت تُضاء مساء بالفوانيس. هذا العشق الأعمي للامكنة الأولى والمدن, يذكّرني بكتاب الناقد الفذّ جاستون باشلار: جماليّات المكان, وفيه يقول: جماليّة المكان ليست في ظواهره, بل في الحنين والحبّ الغريزي الراسخ في خلايانا وتجاويف ذاكرتنا والحامل لعلاقات الحبّ والحماية لطفولتنا, وكلّما استدعينا ذلك الزمان رسمت ذاكرتنا صورة جميلة للمكان تطغى على كلّ ما فيه من عيوب. ويزداد الحنين إلى الأماكن الأولى كلّما أبحرنا في فضاءات المدن الكبرى التي يتغرّب فيها الإنسان عن ذاته».
عندما تتحدّث الكاتبة عن المكان بأسلوب لغوي عالي الكثافة الصوفيّة والإبداع، نذكر استدعاءها حديث عمّها عن صيدا المسوّرة بسورٍ عظيم تنفتح فيه ثلاثة أبوابٍ يخرج من أحدها لمحاربة الأعداء. تقول:
«الأعداء... ما زال صداها يرنُّ في أذني وأنا أستعيد صورتي بين ذراعي أمّي, تحملني وقد نعست, تتسرّب إليّ رائحة الياسمين الذي تزيّن به شعرها. تضعني أمّي في فراشي, فأغفو على حبّي لمدينة بسورٍ وأبواب, ونحن داخلها نعيش عالمًا كأنّه العالم كلّه وزمنًا كأنّه الأزمنة جميعها» عندما حدّثتنا صاحبة «أرق الروح» عن صيدا بذاكرة بالغة الثراء حيث الأزقّة والزواريب المعتمة والقناطر والسلالم الحجريّة والدكاكين الصغيرة وما تعرضه من البقوليّات والخضار والفاكهة والحلويات والخبز الطازج والمشروبات. وبينما كانت صيدا تهمّ بالانفتاح على الحداثة, كان أهلها يشعرون بالرضا على بلدهم عامرة الأسواق ورخيصة الأسعار وغزيرة المياه, والتي تحيط بها الأشجار والبساتين.
من يقرأ هذا النصّ بالغ الثراء بتفاصيله, وتقنيّات سرده العالية بفنّيّتها، سيشعر بأنّ الكاتبة صاغته بهذه الشموليّة لا لأنّها من سكّان صيدا وحسب, بل لأنّها مسكونة بعشق صيدا كما كان الحلاّج مسكونًا بعشق صوفيّ للذات الإلهيّة، ملحٍّ وغلاّب, لم يستطع منه فكاكًا.
هكذا كانت الكاتبة متفانية في مساندة «صيدا» بطلتها وبطلة نصّها في آن. متفانية في صياغة لغة صوفيّة منسوجة لتلائم حالة العشق الصوفي لمدينتها. هذه اللغة الشامخة في شفافيّتها وصدقها ودراميّتها وروحانيّتها، ساعدت بتحويل صيدا من مدينة ساحليّة صغيرة ومهمّشة في الجنوب اللبناني إلى مدينة كونيّة خالدة. إنّها المدينة التي عاشت خلال قرن حربين عالميّتين، والاستعمار الإنجليزي والفرنسي والاجتياح الإسرائيلي, ثم دخول الجيش السوري؛ المدينة التي تحمّلت ببسالة جراح الحروب ودماء الضحايا رافضة التخلّي عن صمودها وذودها عن مكانتها التاريخيّة عبر قرون من الزمن عبرتها فيها حضارات عالميّة كبرى.
هذه اللغة الصوفيّة المنسوجة بتلاؤم مع حالة العشق الصوفي لم تقتصر على صيدا المدينة / التاريخ، بل عمرت كلّ ما فيها من أصوات وألوان وهواء وأطعمة وروائح ومذاقات، وأيضًا كلّ من فيها من كائنات إنسانيّة، من أهل وأصدقاء وجيران وأطفال ومعارف.
تحكي الكاتبة عن إصابتها في ساحة صيدا, برصاص المستعمر، إصابة بليغة كادت تودي بحياتها أو بتر رجلها. تقول:
«أكتب ذكرياتي... أبتدع لغةً لها.
يرفدني الحاضر إذ أرى صورة محمّد الدرّة. طفل يحتمي بذراع أبيه يلوذان معًا بالجدار. الرصاصة التي تقتل الأطفال واحدة. أفكّر... هي رصاصة المعتدي على أرض غيره... محمّد الدرّة بعمر حفيدي, غير أنّي إذ أعود إلى ذلك الزمن, زمن إصابتي, أشعر وكأنّي الآن بعمره. إنّه الجرح الذي لا يندمل؛ أفكّر, الجرح الذي ينزف من جيل إلى جيل... إلى متى سيبقى؟».
إنّها مأساة الواحد المتعدّد. مأساة اللبناني... الفلسطيني... العربي, بل مأساة العالم كلّه.
إنّها يمنى العيد! لا تكب بلغةٍ تغمرك بالمتعة والخشوع أمام أسلوب متميّز بفنّيّة عالية وحسب, بل بلغةٍ تملك القدرة على تحويل الفردي إلى إنساني بشفافيّة وسلاسة تذكّرني بـ «فرجينيا وولف» وفرادتها الخالدة.
في فقرةٍ أخرى, تتحدُت الكاتبة عن حبّها لأمّها. أن تعلم أنّك تحبّ أمّك، فذلك قول معروف ومبذول في ؟؟؟ لدى الجميع. فكلّنا إناثًا وذكورًا نحبّ أمّهاتنا حبًّا غريزيًّا لا جدال فيه. فكيف تصف لنا يمنى حبّها لأمّها؟ تقول:
«أمّي العائدة قبيل الغروب كلّ يوم خميس من بيت خالي في البستان ملتفّة بالملاءة السوداء المشدودة عند الخصر بدكّة. تفكّ أمّي الدكّة عند وصولها وهي ما زالت واقفة فتتدحرج حبّات البرتقال من ملاءتها هذه, وكأنّها شجرة هُزّ جذعها فتساقطت ثمارها.. ننحني, نحن أطفال الدار, نلتقط بفرح لا يضاهى، حبّات البرتقال. أعانق ساقي أمّي, كمن يعانق الشجرة كي لا يدفعني الآخرون وأسقط, كأنّ أمّي بستان, كأنّ البستان أمّي, وكأنّ حنيني اليوم إلى ذلك الزمن هو حنين إلى تلك المشاعر السحريّة التي كان ينسجها خيال طفولتنا, وإلى براءة كانت تضفي على عيشنا السعادة».
ماذا نحسّ عندما نقرأ ما يكتبه الكبار؟
نحسّ كأنّ الكاتبة رشّت فقرات نصّها بزذاذٍ سحريٍّ محمّل بحبيباتٍ ضوئيّة لا تُرى بالعين، لكنّها تشعل الروح بالضوء والخيال وبراءة الطفولة وتغمر دواخلنا بالفرح. أضف أنّ تلك المشاعر السحريّة تحوّل الأمّ من الفردي إلى الإنساني الكوني. فالطفلة تعانق ساقي أمّها كمن يعانق شجرة مثقلة بثمارها. الأمّ شجرة في بستان. الأمّ هي البستان هي الأرض الحبلى أبدًا بالشجر والثمر.
الأمر هنا لا يقتصر على هذه الكثافة اللغويّة العالية, بل يتعدّاها إلى حالة عشق لغويٍّ ـ إن صحّ التعبير ـ مبثوث في حنايا النصّ بين الجمل والكلمات, كلّ كلمة تتآلف بحبّ مع الكلمة التي سبقتها والتي تليها؛ وكلّ جملة تتناغم بعشق مع الجملة التي سبقتها والتي تليها. للإضاءة على ما أقول, أختار بعض الجمل والكلمات المتجاورة في الفقرة السابقة: أمّي، بستان خالي، البرتقال يتدحرج من ملاءة أمّي, أمّي كشجرة تتساقط ثمارها إذا هُزّ جذعها, أعانق ساقي أمّي كمن يعانق جذع شجرة، كأنّ أمّي بستان, كأنّ البستان أمّي, إذن أمّي هي الأرض الحبلى أبدًا بالشجر والثمر... ».
هذا ما عنيته بقولي: التآلف العشقي بين الكلمات والجمل وما عنيته بقولي: الرذاذ السحري الذي يضيء دواخلنا عندما نقرأ ما يكتبه الكبار.
تحيّة لصيدا, وهنيئًا لها بابنتها البارّة يمنى العيد, التي كانت طفلة، تركض لدكّان أبيها لتجلس على الكرسي القشّ تشرب معه القرفة المحلّى ماؤها بالسكّر والجوز وتهزّ ساقيها كأنّها تطير...!

أسيمة درويش
ناقدة وروائيّة سوريّة
جريدة المستقبل الإلكترونية