كتاب من فئة: دراسات
تشكل الفصول المتضمنة في هذا الكتاب مجموعة من الدراسات الخاصة بنصوص من الشعر العربي القديم، إذ تقتصر على تناولها لقصائد أنجزت بين القرنين السادس (أو أواخر القرن الخامس مع لامية أمرئ القيس) والتاسع (مع لامية أبي تمام في ابن الزيات). إلا أن هذه السمة المشتركة العامة للموضوعات المعالجة ليست هي التي تبرر اجتماعها هنا بقدر ما يبرره منهج البحث المعتمد في مقاربتها. كأن تقديم طريقة منهجية في دراسة النص الشعري العربي يتصدر قائمة الأولويات في خلفية الدوافع الأساسية التي أدت إلى هذه الدراسات، هذا إن أمكن فصل هذه الأولوية عن سواها. إن بلورة منهج دراسي خاص بالشعر العربي تقوم بشكل رئيس على إظهار ما يتيحه من قدرة على تبيين القيمة الجمالية والأبعاد الدلالية لنصوص هذا الشعر، فتكون على هذا النحو بلورة لشعرية النصوص المذكورة، بقدر ما تكون مناسبة لتأكيد أهمية العمل المنهجي عامة في بلوغها وارتياد نصوص وأبعاد أخرى. لكن وحدة المنهج الذي توضح المقدمة بالإجمال مرتكزاته ومراميه لا تحول دون تعددية إجراءاته التفصيلية. هكذا قد يأتي البحث في مبدأ التكافؤ أو التعادل الذي يحكم شعرية القصيدة متابعة لتناسب المستويات المختلفة المكونة لها في كل قسم من أقسام تشكلها البنيوي (كما هو الحال مع معلقة لبيد مثلاً)، كما قد يتم عبر تناول هذه المستويات المكونة تباعاً في التشكيل البنيوي الكلي للقصيدة (كما هو الحال مع قصيدة أبي نواس مثلاً)، ربما كان حجم النص عاملاً حاسماً في اعتماد الصيغة المناسبة له هنا. كما قد يجري تقديم مستوى على آخر في عملية البحث المذكورة، فإذا كان المستوى الإيقاعي هو الذي يرد مباشرة إثر المستوى الدلالي غالباً، فإن ذلك لا يمنه تقدم المستوى النحوي عليه أحياناً، قد يكون الاختيار هنا عائداً إلى ما يظهره أحد المستويات من تلاؤم بنيوي مع سابقه أكبر من ذاك الذي يحظى به لاحقه.
في ما يتعلق بهذا الانتظام الداخلي للمستويات أو بذاك التأليف الكلي لها لا يتعدى الأمر نطاق التبدل الشكلي في إطار وعلى قاعدة المنهج الواحد نفسه، هو يشكل دليلاً على مرونة هذا المنهج ليستجيب بشكل خاص لمتطلبات النص وخيارات دارسه.
في الفصول اللاحقة لم يجر اهتمام بتقديم الأوضاع الاجتماعية والتاريخية التي أنتجت نصوص الدراسات فيها، ولا بمتابعة الحياة الشخصية لأصحاب هذه النصوص في أحداثها وتفاعلاتها، باعتبار أن بإمكان القارئ العودة إلى المصادر المناسبة للإطلاع عليها والتعرف إلى تفاصيلها، عدا من أنها ليست من مهمة الدراسات النصية الواردة هنا أساساً. فهذه الأخيرة تقتصر على معالجة النص وحسب، وتكاد تحصر همها في الإصغاء إلى قوله، مع ذلك لم تغفل بعض الإلمامات إلى تلك الأوضاع والأحداث العامة والخاصة، حيث بدا ذلك ضرورياً لاستتباب المعالجة المذكورة. من نافل القول إن المعطيات الموضوعية والذاتية تبقى على الدوام مضمرة في خلفية النظر في النصوص لا تكف عن إنارة دروبها وقسماتها له.
إن الفصول التالية إذ يستقل كل منها بدراسة نصية واحدة تتمتع باستقلالية الواحد منها عن الآخر، تتيح للقارئ إمكان تجاوز الترتيب الذي تأتي عليه. بيد أن هذا الترتيب لا يعدم مغزى يبرره. إذ لما كان من الأفضل البدء بالمقدمة التي تضيء الطرح النظري الشامل. الذي يمكن لمجمل الدراسات أن تندرج فيه، فإن التفصيل الذي عرفه تحديد أساليب المقاربة المنهجية لنص أبي نؤاس والذي لا يتكرر بصدد نصوص أخرى، يقدم، بالإضافة إلى صغر حجم النص وبساطة تراكيبه وسهولة مفرداته نسبياً، الأسباب التي جعلت دراسة النص المذكور تتصدر بقية الدراسات الأخرى. إن هذه الأخيرة تتتابع إثره بناء لما يمكن اعتباره مقياساً تاريخياً، حيث إن مجيئها يأتي بحسب مدى قرب نصوصها من هذا النص الأول. هكذا أتت دراسة نص أبي تمام، الأقرب زمنياً إلى أبي نواس، في الفصل الثاني، ثم تلته بقية الدراسات متدرجة من تلك الخاصة بنص حسان بن ثابت إلى تينك الخاصتين بمعلقة لبيد بن ربيعة ولامية امرئ القيس تباعاً.
جديد