"فراشات لابتسامة بوذا" مجموع شعرية ... شوقي بزيع شاعر يواجه مأزق الوجود

ما أسهل أن يشقّ شاعر يُعدّ من أمهر اللاعبين في معترك الكلمات، طريقاً جديدة صوب «التأمل». ولعلّ عبارة جان كوكتو الشهيرة: «في الاختفاء، أناقة»، تلائم محاولتنا تلمّس عوالم شوقي بزيع الشعرية الجديدة. فهو يتربص باللامرئي لمصلحة المرئي، تكفيه الكلمات ليسحب الخفايا من مجهولها إلى معلومنا. وفي هذا الإطار، ذكر ذات مرة الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، أن شوقي بزيع في كل ديوان ينجز انقلاباً على ذاته. ومجموعته الشعرية «فراشات لابتسامة بوذا» (دار الآداب) نموذج واضح للإصرار على تجدد الرؤية.

هذه المرة، تتشعب عوالم شوقي الشعرية صوب «الماورائي»، وعناوين قصائده تدلّ على ذلك بوضوح: تأليف، تشكيل، رائحة الصابون، ألزهايمر، لا تبتعد في الموت أكثر.

يتضح اصرار الشاعر على التجدد من خلال تماهيه المخلص مع مياه النهر التي تقوم على معادلة: «وحدة المجرى وتنوع الماء». فكرة جسّدها في إحدى قصائد الكتاب: «تلك المياه الأمُّ/ سوف تواكبُ الأحلامَ في جرَيانها/ عبر العصور». وكثيرة هي الميزات التي يستعيرها شوقي بزيع من المياه، لمصلحة قصيدته التي تلاقي المياه في مصبِّها الأبدي، حيثما اتجهت، أي أن القصائد تبوح بأن شوقي، هو نفسه، ونقيضه.

هذه المرة يسجل الشاعر مجازفة جريئة باتجاه روحية قصيدة النثر، وهذا ما يتجلّى من خلال التخفف من البلاغة، لمصلحة تحرّي جوهر الفكرة. ففي قصيدته «نظرات يائسة»، وبداعي الفضول، وفي شارع الحمراء، تستوقفه عملية ردم حجارة في باطن الأرض. وحده الشاعر يمكنه التقاط غبار اللحظة بداعي العثور على فارقٍ بين سطح الوجودِ وباطنه. استوقفه مشهد الحجر الذي ذكره بكل الكنوز المطمورة في بطن الأرض، وأحاله إلى الموت، إلى ما لن يعود، وما لن نراه، قصيدة تذكرنا، بموتانا، بوجوههم، وأجسادهم المسجّاة في عالم آخر مجهول، لا يكترث بنا أو بأحزاننا: «ولكنني رحت أُمعن في حجرٍ راقدٍ/ تحت عزْلته السرمدية/ في حجر شدّني نحوه صدفةً، لا افتتاناً بندرة تكوينه/ أو لشيءٍ يميزه عن سواهْ/ لم يكن في خشونة ملْمسه الصّلبِ / ما يوجب الانتباهْ/ لم يكن ثمَّ من دافعٍ كي أردِّد/ فيما أنا شارد الذهنِ/ قول تميم بن مقبل «ليت الفتى حجرٌ»، فلماذا إذاً كدت أصرخُ/ بالعاملين على طمْس صورته وهي تغربُ/ أن أوقفوا الردم قبل وصول الظلام إلى منتهاه». إنها لحظة التواري في الغيب، في النهاية، لحظة الحزن المريرة والبالغة الدقة يثبتها شوقي بقصيدة تُشكل دعوة ملحّة للتفكر بكل ما يمكن أن يكون تحت التراب.

ليس جديداً أن يكون شوقي بزيع، الشاعر الناطق بعواطف الجمادات. فكتابه «صراخ الأشجار» مثل جميل على اهتماماته الشعرية التي تميزه عن غيره، وقصيدته التي يرثي فيها الحجر المتواري يمكن أن تكون بذرة لقصائد أخرى. شوقي بزيع الذي طالما تغذى شعره من الغنائية، استفاد من لغة السرد بغية إيصال أفكاره الجديدة. وإلا فكيف يقدم لنا تلك اللحظات المحلقة في طائرة «جامبو» باتجاه المغرب. عندما تستوقفه سطوح بيوت قرى اليونان المتناثرة في البحر الشاسع، تحت الطائرة، فيكتب نصاً شعرياً مشهدياً بامتياز: «أمعنتُ التحديق مليّاً/ قبل غروب المشهد عن مرمى العينِ/ إلى الأسفلْ/ فتبدّى لي/ مختلطاً بنثيث عوالم راعشةٍ/ مصباحٌ أعزل/ مصباحٌ لم يتسنّ له أن يُسفر عما استُغلق من وحشتهِ/ إذاً لا خيط هنا مرئي بوضوح/ كي أكشف عن ماضي الأشياء/ المنبَتِّ بالذكرى/ أو أسبر غور المستقبل.»

وحدها جرأة الشاعر يمكنها أن تمتلك الفضول بحيث تتقصى سر مصباح وحيد على جزيرة بعيدة. أليس الشعر هو الانتباه إلى ما لا ينتبه إليه الآخرون؟ أي أن قصائده تعتمد اصطياد اللحظات الغفل؟ في قصيدة «ألزهايمر» بدا ملموساً تخففه من الإنشاد العالي لمصلحة البناء الدرامي للقصيدة، تساعده اللغة التلقائية والليونة اللتان ميزتا أشعار شوقي. في وصف أو سرد حالة رجل عجوز مصاب بالزهايمر، حالة مرضية عادة لا تغوي الشعراء أو الشعر في كتابتها، لكنّ شوقي التقط فيها حالة إنسانية فضاؤها شاسع: «فقلتُ: دعنا يا صديقي من حديث النحلِ/ فهو مخاتلٌ شأنَ الجميع/ وهذه الأشياء تحدث غالباً/ فأجابني: في مثل هذا العمر/ لا تأمن إلى أحد/ وقال كمن يحدّث نفسه:/ حتى الكلاب تخون صاحبها؟».

في قصيدته المركزية «فراشات لابتسامات بوذا»، يُطلق شوقي بزيع فراشاته الشعرية لاقتناص ما أمكنه من رحيق الأسطورة، بحيث نقرأ قصيدة تجمع بين البعد الملحمي وبين التأمل الداخلي والتماهي مع تجربة بوذا في تحولاتها العميقة التي تلتقي مع تحولات «يوسف» في مجموعته الشعرية الشهيرة «قمصان يوسف». فبوذا له بئره، البئر التي اختبر فيها نفسه. اختبر حالة محو شهوات الجسد مع البراهمة. وتصوف قبل أن يتجه صوب الشهوات المطلقة، وصولاً إلى المصالحة بين الجسد والروح: «بهدوء التماثيل يجلسُ/ فيما الزمانُ ينام على ركبتيهِ/ كطفلٍ صغيرٍ، وتلهو الفراشات نشوانةً/ عند مرمى ابتسامته الخالده/ وحيث الصباباتُ ترمي مفاتيحها في الفراغِ/ تراوده بين حينٍ وآخرَ/ غانيةُ الذكرياتِ الطروبُ، وتمتدُّ من تحته الأرضُ/ كالمائده/ فيضحكُ في سرِّه ساخراً، مثل من يتذكر شيئاً مضى / ويتمتمُ: ما الفائدة؟».

وفي قصــيدته «الأغنــية الأخيرة لمالك الحزين» يزاوج أيضاً الاسطورة بالرمز ويُضّمن القصيدة شخصية تيمورلنك، ويربط مصير مالك الحزين بمدينة حمص، المدينة التي يحبها والتي حضرت في واحدة من أشهر وأجمل قصائده «ديك الجن الحمصي». لكنّ حمص تحضر هنا بشكل يحتمل تأويلات عدة، كأنّ شوقي أراد أن يقولها منطلقاً من منطق الشــعر الذي يخلص لكلّ شيء يحبه حتى لو كان حجراً وحسب: « في جهات حمصَ قيل مات مالكُ الحزينْ/ وقيل: حين ماتَ/ جفَّت الدموعُ في عيون أهلها/ وقيل إن لوثةً من الجنونِ/ خالطت عقولهمْ/ فجيشوا الطبولَ كي تصمَّ سمع تيمورلنك/ وأطلقوا أعنَّة الرياحِ/ من أقفاصها/ لكي تَدُكَّ عرشه المــكينْ/ وحيث مالت الأشجارُ باتجاه الأرضِ/ وانحنتْ على جذوعها/ ونكّسَتْ جدرانَها البيوت/ وحده الإنسان ظل واقفاً/ واتخذتْ مقابضُ الأبوابِ شكلَ: لا».

في قصيدته «تأليف 2» يُدخلنا شوقي في خضم لعبة لغوية ماكرة، إذ تحلّ شجرة السرو محلّ حرف السين وتتحول اللغة رقعة شطرنج تتحرك عليها الكلمات على نحو منتظم مدروس: «كأن أدعو الجلابيب الطويلةَ للظلال/ طريقتي في جرِّ حرف «السين» نحو السرو/ أو في دفْع أعناق النباتاِت التي وُلِدَتْ حديثاً/ للحلول مكان حرف «التاء»/ ثم بضربة النحاتِ / وزعتُ النقاط على الحروفِ».

يقدم شوقي نظرة شعرية جديدة عندما يمزج أفكاره بموسيقى الكلمات. نبعه غير قابل للشح أو الجفاف، يشق كل الطرق المتاحة إلى التأمل، فنقرأ قصائد «فلسفية»، مثل قصيدته «تأليف 1» التي يكشف فيها عن اكتناهه لأسرار الحياة :»تحت الحياة تماماً/ ثمَّ أوديةٌ مجهولةُ/ وجهاتٌ لست أعرفها/ كم زينت لي سماواتي/ انهمار رؤىً/ ما زلتُ أودعها شعري وأنزفُها/ هناك حيث الثرى ينشقُّ/ عن برَكٍ/ لا شمسَ، حتى ولو غاضتْ/ تجففها».

لا بد من الاشارة إلى أن المرأة تغيب عن هذه المجموعة، كموضوع مستقل على غير عادة عند شوقي بزيع لتحضر من خلال تأنيث اللغة ومن خلال ترجيعات لأطياف الماضي مثل قصيدة «رائحة الصابون». هذه المرة لم يكتب إهداء لإحداهن، كما عودنا في غالب دواوينه السابقة. اختار التحول إلى صداقاته، أحبائه الحاضرين والغائبين مثل قصائد مهداة الى المنصف الوهايبي، وحسن جوني وزهير غانم. وثمة مرثيتان لأبيه الراحل.

سحب البلاغة تمطر، ويدخر لنا الشاعر المزيد من المفاجآت الشعرية، وفق توقيت جني الإلهام الذي كان حليفاً قوياً لكل ما كتبه ابتداءً بمجموعته الشـــعرية: «عناوين ســـريعة لوطن مقتول (1978)، مروراً بدواوين سجلت حضوراً راسخاً في المشهد الشعري العربي مثل: الرحيل إلى شمس يثرب، مرثية الغبار، وردة الندم، شهوات مبكرة، فراديس الوحشة، قمصان يوسف، وانتهاءً بجديده الشعري: «فراشات لابتسامة بوذا»، لتثبت قصيدته المزيد من التوغل في أرض الشعر، ويناوش الوجود المأزوم، الذي يكاد أن يكون معاناة بشرية، إنسانية بمعناها الواسع. وليس أبرع من الشعر، في انتشال ذلك الآدمي العالق في خط التماس بين الحاضر والغائب.

 

بقلم: لينا هويان الحسن
جريدة الحياة