ميا كوتو كاتب موزامبيقي باللغة البرتغالية يلقي ضوءا على أدب مجهول عربيا
عن موقع: Independent Arabia بقلم: انطوان ابو زيد السبت 13 يونيو 2020 13:51
منْ هو الروائي ميا كوتو، الذي روايته "اعترافات شرسة" مترجمة حديثاً إلى العربية عن دار الآرداب (2019)، وقد أنجز الترجمة مارك جمال، من البرتغالية إلى العربية؟ إنه الكاتب الموزامبيقي أنطونيو إميليو ليتي كوتو، من أصول برتغالية، والده هو الصحافي والشاعر فرناندو كوتو، نشأ في مدينة بيرا، وكتب عدداً من القصائد ولم يزل فتى في الرابعة عشرة من عمره. ولولا ميله الشديد إلى الصحافة والأدب لكان طبيباً، إلاّ أنه تابع تحصيله في علم البيولوجيا، إلى جانب شغفه بالكتابة القصصية والروائية والشعر. وقد ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات العالمية من البرتغالية. ومن أعماله المترجمة: الأرض المسرنمة (1994)، وحيتان كيسيكو (1996)، وفيراندا الياسمين الهندي (2000)، ويوميات الرماد (2003)، والقطّ والأسوَد (2004)، ونهر يُدعى الزمن، بيت يُدعى الأرض (2008)، وتسوير الخوف (2011)، وسمّ الإله، وأدواء الشيطان، حيوات كاسيمبا العصيّة على الشفاء (2013)، وغيرها. وهي تتراوح بين مجموعات قصصية وروايات ومجموعات شعرية.
في الرواية الأخيرة للكاتب ميا كوتو، البرتغالي الموزامبيقي "اعترافات شرسة" حبكة بسيطة، أو يخيّل إلى القارئ أنها على درجة من البداهة والأوّلية، إلاّ أنها لا تلبث أن تتشعّب فروعاً وأصواتاً وشخصيات مؤثّرة وأخيلة وأساطير مستفادة من البيئة الأفريقية وروحانيّتها بل أرواحيّتها السابقة للتحوّل إلى المسيحية. ففي قرية أفريقية نائية، تتكرّر هجمات الأسود، ويُقتل عدد متزايد من الناس، غالبيتهم من النساء والفتيات. ويكلّف الصيّاد آركانجو بالقضاء على هذا التهديد الذي تمثّله الأسود، استجابة لنداءات الاستغاثة التي أتتهم من سكّان البلدة، ومن "شركة البترول" التي كانت تزمع على إقامة مشاريع في ذلك المكان الذي يتهدّده الأسود بالإغارة وقتل العاملين فيه، بشهادة الكاتب الحقيقية، إذ قال إن "القصة التي أسردها هنا... استلهمتها من وقائع وشخصيات حقيقية" (ص6)
الصياد والأسود
إذاً، تكشف الرواية عن مسردين كبيرين، هما مسرد الصياد آركانجو، المكلّف من قبل البلدة وشركة النفط لقتل الأسود التي أمعنت في قتل النساء والفتيات، وما يتبيّن له من أمور غريبة، تفوق الواقع المروي وتصف عمق المأساة التي يحياها، هو الشاهد على مقتل أبيه بيد ابنه (أخيه رونالدو). ومسرد آخر يصاغ بلسان المرأة ماريامار وتروي فيه مأساتها المتمثّلة في كونها إحدى ضحايا أبيها (بالاغتصاب)، ومآسي النساء والفتيات المغتصبات من قبل رجال البلدة والجوار، والمقهورات من قبل المجتمع الذكوري الحديث بحجج مسيحية أخرى. ويظلّ الصوتان المذكوران يتناوبان على مدار الرواية، مع توالي الأحداث وانكشاف تفاصيل جديدة تتصل بمحاولات الصيّادين المكلّفين قتل الأسود، واعترافات بعض النسوة والرجال بوجود فاعلين آخرين في جرائم قتل الفتيات والنساء، وتحميلها للأسود.
ولئن كانت حبكة الرواية الرئيسية والأفقية تنتهي بمقتل الأسد أو الأسود على يد الصيّادين، بعد محاولات عدة، فإنّ الحبكة العميقة التي اختتمت بها الرواية، والتي تفيد بأنّ المرأة آنيفا أسّولوا، وهي أم ماريامار من غير أمومة اللحم، هي التي قتلت كلّ النساء في بلدة دي بالما، وأنها هي اللبوءة المنتقمة، وهي التي تزمع القضاء "على من تبقّى من النساء حتى يخلو العالم التّعِب إلاّ من الرّجال... وهكذا يفنى الجنس البشري بخلوّ العالم من النساء والأبناء" (ص243)
لعل الأساطير والطقوس التي شكّلت مادّة التغريب الأولى التي استخدمها الروائي، سواء في الإيحاء بتكوين تفكير الشخصيات التي يتوإلى ظهورها عبر الرواية، ولا يكاد مشهد أو فصل يخلو من أسطورة أو طقس من طقوس المياه، وحظر كلام النساء، والشيتالا، والماتانغا، أي شعائر الجنازة، والمينتيلا أو "الموادّ المستخدمة في صناعة الأسود"، أو شعائر البلوغ، أو الاغتسال بمياه نهر ليدايا، وغيرها. مما يهب الانطباع بأنّ الروائي ميا كوتو، إذ يشكّل عالم روايته الغرائبي يتقصّى العديد من الطقوس التي كان السكّان الأفارقة يعتبرونها، في ما قبل تحوّلهم إلى الديانة المسيحية، على يد المبشّرين البرتغاليين، نسيج تفكيرهم الطبيعي المنسجم مع بيئتهم وطبيعتهم الغابية وكائناتها وحيواناتها وأجوائها.
ومن الواضح أنّ معالجة الكاتب كوتو ثيمة العدوانية، ممثّلة بشخصية الأسود آكلة البشر، والمعتدية على سكان البلدة كان المقصود منها تجاوز الإطار الأفريقي المحلّي ومخاطبة الوعي الإنساني العام، والضرب على وتر المشاعر الإنسانية المعذّبة، لا سيّما المرأة الأفريقية والمرأة بصورة عامة، حين يصوّرها الكاتب، بقلم الصيّاد آركانجو راوي يومياته حيناً، وبلسان الفتاة المغتصبة ماريامار حيناً آخر، أنّ الأسود الغاصبة والقاتلة والعدوانية إن هي إلاّ البشر، وأنّ الهجوم الوحشي الضاري على النساء والفتيات المكلّفات نقل المياه والأغراض ورعاية الماشية وحراسة البيوت، تعادله النميمة والبغض والاغتصاب الذي يمارسه أقرب المقرّبين (الأب) على بناته من دون أن يحقّ لهنّ أو لإحداهنّ النطق بالحقيقة الجارحة.
الموت والمرض
ومن الواضح كذلك أنّ الكاتب كوتو يقارب مسألة الموت والمرض والخطيئة، ليس من وجهة نظر مسيحية، وإنما من وجهة إحيائية كانت لا تزال سائدة لدى السواد الأعظم من القبائل، ومفادها أنّ للكائنات الطبيعية روحاً، وأنه ليس من خطيئة أو انحراف من المنظور الأخلاقي البحت، وإنما ثمة تعاضد في ما بين الكائنات لأجل إعادة التوازن إلى الطبيعة، كلما اختلّ بفعل عامل سلبي أو قاهر مسار الأشياء.
"كشف لي أبي عما يلي: أمّي هي التي أبرأتني لمّا أُصبتُ بالشّلل في ساقيّ لا الإرسالية، ولا الكاهن أموروزو، بل كانت أمّي التي صنعت معي التاكاتوكا، فأزالت عنّي الألم ونقلتْهُ إلى الشّجرة التي لم تحتملْ وذوتْ تحتَ وطأة الألم. وتلك هي التاكاتوكا: نقل الألم من الشخص إلى الشّيء. فبدّلت آنيفا أسولوا حياة التمر هندي بجراح روحي..." (ص166)
وبغضّ النظر عن الطرح الأحيائي، الذي يقارع فيه المؤلّف كوتو الرؤية المسيحية والغربية الحديثة إلى الطبيعة والألم والموت والقتل، يمكن اعتبار الرواية نشيداً غنائياً صارخاً في إعلان مظلومية المرأة بعامة، والمرأة الأفريقية بصورة خاصة؛ ذلك أنّ العنصر الأنثوي، سواء كان فتاة أو امرأة أو طفلة وليدة أو عجوزاً هو الأشدّ عرضةً للظلم، والقتل، والاغتصاب، والنهش من أسود الغابة الحقيقية ومن أسود البشر أو من الأسود المصنوعة، بحسب توالي الروايات عن قاتل الناس في البلدة. ولكنهنّ، في الآن نفسه، الشافيات، وهنّ الأسود البشرية القاتلات إن اقتضى توازن الطبيعة الأمر، وهنّ الزوجات المعتنيات بالمرضى من الذكور، نظير سيلينسيا، زوجة رونالدو قاتل أبيه، وأخو الصياد آركانجو، الممرّضة المعتنية بزوجها إلى حين معافاته. بل يذهب الكاتب، وعلى لسان الراوي الصياد آركانجو، إلى التذكير بأنّ الإلهة إنما كانت، في بدء الخليقة، أنثى، على صورة الأمازونيات.
في رواية "اعترافات شرسة" للكاتب الموزامبيقي ميا كوتو، الكثير من المسائل الجديرة بالدراسة، من مثل العوالم الظاهرة والخفية، والتي تنسجم مع الرؤية الأفريقية الإحيائية التي يسعى المؤلف إلى استعادتها مادة روائية وقيمية للمستقبل، وأسطورة الصيد وارتباطها بالسّحر، ومسألة التحريمات الخاصة بالفكر الأفريقي الما قبل المسيحي، والتداعيات السياسية المضمرة، ونفاذ تأثير الأموات في الأحياء، وغيرها من المظاهر. كما يبقى التنويه بالترجمة المتقنة، من البرتغالية إلى العربية، التي أعدّها مارك جمال، والتي ذيّلها بهوامش لتفسير بعض العبارات الأفريقية البحتة، وهي وإن لم تكن وافية تماماً، فإنها أدت الغرض منها. كاتب موزامبيقي برتغالي اللغة، يدخل اليوم إلى ثقافتنا العربية ويضيف جديداً إلى معارفنا في الرواية العالمية وهمومها.