رواية «اعترافات شرسة»… حين يضعف الصياد يصير هو الطريدة

رواية «اعترافات شرسة»… حين يضعف الصياد يصير هو الطريدة

عن موقع alquds.co.uk
بقلم حسن داوود

في توطئته لروايته يكشف الروائي الموزمبيقي ميا كوتو عن السبب الذي دفعه إلى كتابتها. يقول إنه حدث في 2088 أن أرسلت إحدى الشركات فريقا من خمسة عشر مشرفا لحماية البيئة من التنقيب الزلزالي الذي كان جاريا في شمال موزمبيق، لكن صودف أن كان الناس هناك، في منطقة كابو دلغا، يتعرضون لهجمات يشنها الأسود على البشر. سقطت جراء ذلك ست عشرة ضحية من الأهالي، ثم ارتفع العدد إلى عشرين، ثم إلى ست وعشرين، ما اضطرّ تلك الشركة إلى تكليف صيادين القضاء على الأسود الضارية، حماية لفريقها.
أمضى الصيادون المكلّفون شهرين في المطاردة، كما في الرعب والإحباط، كانوا خلالها يتلقون نداءات النجدة من الأهالي، بصفة يومية، لكن الصعوبات كانت تذهب إلى أبعد من مواجهة الأسود وإلحاح الأهالي، إذ تبين أن ما يواجهه الصيادون يكمن في أن المفترسين الحقيقيين هم من ساكني العالم الخفي «حيث يصيرالرصاص والبنادق بلا أدنى تأثير»، وحيث أن الألغاز التي تواجههم لا تعدو أن تكون «أعراض صراعات اجتماعية تفوق قدراتهم على الاستجابة».
كان الكاتب ميا كوتو بين من أتيحت لهم معايشة تلك المحنة، وقد أدهشه، وأغراه من ثم، ذلك الاختلاط بين الحقيقي والوهمي، وقيامهما تاليا على صراعات اجتماعية بين الأهالي، وهو استغرق في تداخل الخرافي بالأرضي إلى حدّ أن أضاف إليه، من عنده، عناصر زادته اختلاطا. كان عليه أولا أن يعيد تأسيس البيئة التي ستجري فيها أحداث روايته وتفاعلاتها: قرية كولوماني، «حيث الربّ يشبه سائر أمهات العالم»، وحيث الناس ما زالوا يتوارثون أوهاما وقناعات راسخة، منها مثلا أن أجدادهم «كانوا يتكلمون بألسنة البحار واليابسة والسموات».
يترافق هذا الموروث مع إدخالات تحققت من كون القرية قد استُعمرت من البرتغاليين، فبات التقليد الذي يحكم أهلها مخترقا بحالات تمرّد جنونية. فها هي أنيفا أسولوّا، في الصفحة الأولى من الرواية، تجنّ، ليلة التهام الأسود ابنتها الكبرى، فتستدعي زوجها ليجامعها، رغم أن التقاليد لا تبيح ذلك. «كانت الأرض ما تزال ساخنة»، وهي بفعلتها ازدرت الأسلاف جميعا بمطارحتها الغرام هكذا أمام الملأ، ومع نفسها، بعدما رفض زوجها ذلك».
أنيفا خسرت ابنتها الكبرى ملتهَمَة من الأسود، وقبل ذلك خسرت توأما، أما ابنتها الباقية، ماريامار، فمزيج من عاشقة ومريضة بالجنون. على لسان هذه الابنة، التي هي في مطلع ثلاثينياتها، يجري نصف الرواية، أما النصف الآخر فيشاركها فيه أنريكو باليرو، الصياد الذي استدعاه محافظ المنطقة للتخلّص من الأسود التي تغير على القرية. هما، ماريامار وأنريكو، الراويتان، يتقاسمان سرد الرواية نصفا بنصف، فصلا لها وفصلا له، تتالياً. هو أيضا يحمل جروحا عميقة من طفولته، فوالده قضى مقتولا برصاصة أطلقها عليه أخو الصياد إدواردو، وجنّ من بعدها. وها هو قاتل أبيه يقبع في مشفى المرضى العقليين، يحصي كل يوم الجزء الذي يفقده من عقله. أما الاشتباك الثاني بين الأخوين فهو عشقهما للوزيليا، التي هي زوجة المريض من بينهما. في نهاية الرواية، في ما أدواردو يقبع في المشفى، تأتي لويزيانا إلى حيث الأخ الصياد، أنريكو، ويتطارحان الغرام مثقلين بالرغبة والخطيئة في آن معا.
أما ما يجمع بين الصياد وماريامار، فهو تعلّقها به منذ أن زار القرية قبل ستة عشر عاما. مرّة واحدة رأته ولم تفارقها صورته. وهو، بالطبع، غفل عن ذلك اللقاء ونسيه. شغله عشقه لزوجة أخيه وهموم وراثته الصيد عن أسلافه. ربما كانت رغبته العميقة أن يكون كاتبا، وهو خطّ صفحات في آخر الرواية بعد فشله في صيد الأسود التي كان قدد استُدعي لصيدها. ما تمكن من فعل ذلك هو والد ماريامار، العاطل عن العمل، والشرير الفاسد الذي كان يعتدي جنسيا على ابنتيه، وهذا النجاح للرجل الفاســد في تحقيق ما عجز عنه الصياد، يسقط الخرافة والشرف اللذين يحيط بهما أنريكو مهنته.
كل الشخصيات التي تظهر في صفحات الرواية الأولى تعاود الظهور، مرة بعد مرة، على مدار الصفحات الـ255 اللاحقة. وهي شخصيات نجدها متحوّلة على الدوام، بما يشبه السبر التدريجي، لكن المتواصل، لتاريخها وتكوينها الداخلي.

متأخرون نعلم أن الوالد الذي تمكن من قتل الأسد مغتصب لابنتيه، ومتأخرون نصل إلى لقاء الصياد الأكثر حميمية بلوزيليا. ومتأخرون أيضا نعلم أن شقيق الصياد قتل أباه عامدا لا عن طريق الخطأ. هناك الماضي المتحكّم بكل ما حصل من بعده، وما سيحصل، الماضي الذي لا تصنعه الأحداث التي جرت، بل هناك خطايا الزمن السابق على وجود الشخصيات جميعها. الماضي المتصل إلى حدّ أن المرأة في القرية، كل امرأة وليس الأم أنيفا أسولوّا وحدها، تشعر بأنه، في لحظة الجماع، تعاشر رجال القبيلة السابقين، الأسلاف الذين انقضت على رحيلهم أزمنة كثيرة.
هي رواية عن العشق والموت والصيد، عن الأسود المختلطة بالبشر، حيث يحلّ كل منها في جسد كل منها. في نهاية الرواية نعرف أن أنيفا هي «صانعة الأسود» أو مستدعيتها لالتهام البشر وقتلهم. «اعترافات شرسة» رواية ممتلئة بالمآسي وبأثقال الزمن وبقسوة الحياة وبعنف بقاء التقاليد ومواجهتها وتحدّيها معا. كل ذلك نقرأه في مزيج الحكمة والشعر ومفاجآت السرد القاطعة للنفَس.
*»اعترافات شرسة» رواية للكاتب الموزمبيقي ميا كوتو كتبت باللغة البرتغالية وقد نقلها، عن تلك اللغة، مارك جمال. صدرت عن دار الآداب في 255 صفحة العام الفائت 2019.