المصدر: النهار العربي- مايا الحاج annaharar.com بعد الفراغ من رواية "أن تعشق الحياة" (دار الآداب) للكاتبة علوية صبح، تظنّ لوهلة أنّك قرأت عملاً بعنوانٍ آخر هو "أن تكتب الحياة". وليس "العشق" عند علوية سوى مرادف بديهي لفعل "الكتابة"، هي التي اعتادت أن تُنفق سنوات من عمرها في رواياتٍ شكلّت جميعها حضوراً أدبياً هائلاً. بعد ثلاث روايات شكلّت علامة بارزة في تاريخ الرواية العربية المعاصرة، قد يسأل أحدنا عن الجديد الذي تحمله علوية صبح لقارئها. وإذا بها تأتي برواية تستكمل فيها مهمة الحفر في الذات الإنسانية، بموازاة حفرٍ سوسيولوجي وايديولوجي وبوليتيكي أعمق. اختارت علوية صبح أن تحكي قصة امرأة، فإذا بها تحكي قصة "الحياة" برمتها، ما فوق الأرض وما تحتها. أيّ رواية هذه التي لا تكتفي بسرد حيوات الناس، بل تشقّ الأرض لتُسمعنا حكايات الأموات؟
استخدمت علوية صبح، هذه الحكّاءة الرهيبة، صوت بسمة لتكشف جحيم وجودنا في هذه الأوطان الهشّة. ثمّ انتقلت بنا عبر مشاهد كثيفة وبديعة لتُسمعنا أصوات الموتى من داخل قبورهم. هم أيضا لهم حكاياتٍ اختلطت برفاتهم، بانتظار من يرويها. "ألصقتُ أذني بالأرض. سمعتُ أنيناً وشهقات دموع لعظامٍ في طبقات قريبة وبعيدة وعميقة تحت الأرض. بكاء رفات لقتلى ومخطوفين دفنوا أحياءً، استغاثات نساء مغتصبات ومذبوحات ومقتولات، وأشلاء أطفال تحنّ أن تلتئم في أحضان أمهاتهم..." (ص13).
حكاية بسمة هي متوالية زمنية، تبدأها عبر حوارٍ افتراضي مع شخص تقصّ عليه حكايتها. تنعقد علاقتهما في السرد من خلال الأسئلة التي تطرحها بسمة كي تضمن حسن متابعته لقصتها: "أنا غير قادرة على سرد حكايتي في تسلسلها الزمني. ولكن الى أين وصلت بالكلام؟" (ص9). ثمّ تنتقل بخفّة بين الأزمنة، معتمدةً الاستباق مرّة والاسترجاع مرّات، ما يمنح السرد شيئاً من سلاسة الحكاية الشفوية التي تتخذ شكل المذكرات الحميمة.
أساطير شعبية
ليس جديداً اهتمام علوية صبح بالشخصية الروائية، هي التي اعتادت أن تُقدّم شخصياتها الأساسية والثانوية بعناية كبيرة. تخلط باقتدار بين الشخصية والشخص، بحيث تبدو "الشخصية" الناتجة من اللغة كأنها "شخص" أنتجته الحياة، من لحم ودم.
علوية صبح لا تسند الى "أبطالها" صفات جاهزة أو خاصيات جامدة، وإنما تصورهم بكل اختلافاتهم واختلاجاتهم وانفعالاتهم. كأنما تكتب لتتعرّف أكثر الى الإنسان، هذا الكائن الغريب.
تتنوّع شخصيات الرواية وتتناقض، كلّ بحسب نشأته وطبقته وثقافته. أنيسة صديقة بسمة تتزوّج برجل بخيل مادياً وعاطفياً، ما يجعلها تقع في غرام رجل آخر، كريم النفس والمشاعر. أمّا أمينة، صديقتها المحافظة، فتحمل أفكار بيئتها وتصدقها. تخاف الشعوذة والحسد وتظنّ أن تأخر زواجها هو نتيجة "عمل" مسحور. بينما يمثل نزار صورة رجال تأثروا بالتحولات السياسية في المنطقة، فكانوا مرة ناصريين ومرّات شيوعيين وأخرى بعثيين. ولا تتخلّى صبح في روايتها الجديدة، كما في رواياتها السابقة، عن الأساطير الشعبية التي شكلّت جزءاً من عالمها الخاص، وقدّمتها هنا عبر حكايات الجدّات السبع التي تُصوّر علاقة الإنسان بأسلافه، بأسلوب ساحر يُزاوج بين "الوهم" و"الحقيقة".
اللغة الروائية
تنتمي اللغة في رواية صبح الى مستويات عدة، تختلف باختلاف الشخصية. تُقحم أحياناً اللغة العامية لتمنح الحكاية مزيداً من السلاسة والواقعية، بينما تبقى اللغة في مجملها شعرية ومشغولة بحرفية عالية كي تنسجم مع خصائص الشخصيات الآتية بمعظمها من مجالات فنية وثقافية. يحوي السرد الكثير من التأملات الفلسفية، وخصوصاً في كلام يوسف: "قولك يا يوسف لوين بروح الحبّ بس يخلص؟ فأجابني بدون تردد: لوين بدّه يروح حبيبتي. بروح على الجرح" (ص47). كما يصف الخوف قائلا: "الخوف معادل للموت في أبشع صوره" (ص252).
وفي معظم الأحيان، تستبدل صبح الأوصاف بالأحاسيس، فلا تصف لك كم أنها مشتاقة، وإنما تجعلك تشعر بحرقة اشتياقها، كقولها: "يحرقني الشوق الى درجة أشتمّ فيها رائحة حريق في روحي" (ص135).
محاكاة اجتماعية
تقدّم الكاتبة حكاية بسمة، الراوية/ البطلة، على أنّها محاكاة لتجربة فردية تمّت عبر استخدام السرد بضمير المتكلّم مرة، ومن خلال الأسلوب غير المباشر الحرّ. لكنّ قصّتها في الحقيقة تحاكي الواقع كما هو، من دون "رتوش". عالم هذه الرواية ليس تقليداً لواقعٍ راهن نعيش، بل هو نسخة مطابقة له، أو الأصح قولا هو الواقع نفسه مروياً بلغةٍ عالية، قادرة على تمثيله، بكلّ ما فيه من صخبٍ وألم وعنف وصدمات.
وإذا كان النقل عادةً تأريخاً ناقصاً، أو مجرّد تصوير جامد، فإنّه يغدو عند علوية أثراً فنياً يتجاوز حالته الانعكاسية، ليكتسب مقدرةً على الإبهار والإمتاع.
الجسد
وفي ظلّ هذه المآسي، كان جسد بسمة هو ساحة لكلّ هذه المعارك. جسدٌ يتجلّى رقصاً، ويُزهر عشقاً، ويتشنّج خوفاً، ويشيخ حرباً. جسدٌ متعدّد، يؤثِّر ويتأثّر. "الجسد" هنا ليس أداةً أو تمثيلاً رمزياً لعلاقة ملتبسة بين الأنا والآخر، مجتمعاً كان أم إيديولوجيات. الجسد في رواية صبح هو بطل النص. إنّه شخصية قائمة بذاتها، يتوهّج ويعجز ويثور وينكفئ. تفاعلات الشخصية الرئيسة (بسمة) مع بيئتها وواقعها ومجتمعها تنعكس أولاً عبر جسدٍ فقدت السيطرة عليه.
الراقصة التي كانت تضبط خطوتها بالميلمتر، صارت تهرول أحياناً بدون قصد، يركض جسدها أمامها وتلحق به كمن يبحث عن عقله. ترتجف شفتاها تارةً، وتتشنّج عضلات وجهها طوراً. "تشنّج فمي وصار يروح شمالاً ويميناً، ولا أستطيع أن أضبط أي حركة فيه. تطوّر الأمر، ينفتح فمي على آخره ولا ينغلق. أحاول أن أمسك لساني الذي يدور في فمي كبلبل ثم يرتجّ ويتدلّى، ولا أستطيع السيطرة على عضلاته" (ص141). وهي كلّما حاولت أن تشفى، "يتزلزل" جسدها من جديد أمام أنهار الدماء الجارية في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
هي والرجل
بسمة "الراوية" تسرد حكايتها أمام "المروي اليه"، وهما يمثلان معاً "طرفي الاتصال"، بحسب ترسيمة ياكوبسون (المُرسِل والمُرسَل اليه). يظلّ المرويّ له مندمجاً بالقارئ المُحتمل، إلى أن نفهم في مرحلة متقدّمة من الرواية أنّه حبيب جديد مُحتمل.
وإذا استثنينا هذه الشخصية الأشبه بالـ"طيف" أمام حضور بسمة الطاغي، نجد أنّ ثلاثة رجال آخرين قاسموها بطولة النصّ. الأب، أحمد، ويوسف.
هذا الوجود السخيّ للرجل، يكشف مرّة أخرى أنّ نسوية علوية صبح لم تكن يوماً نسوية أصولية أو راديكالية، بل على العكس. تحكي بسمة عن أبيها بكثير من الحبّ، هو الذي كان "ضعيفاً" أمام "سلطة" أمّها. منح ابنته حبّه ودعمه حتى في قرار امتهانها الرقص. لكنّ وداعته هذه لم ترضِ أمّها التي تمنّته رجلاً "قوياً" بمواصفات جارها، صاحب "الوهرة" والصوت العالي. بل كانت الأم تحسد جارتها التي تُعنّف على يد هذا الزوج. ولمّا أصيب زوجها برصاصة جعلته عاجزاً، اشترت له "بدلةً" بيضاء على غرار ملابس جارها وسرّحت له شعره مثله وجعلته "الصورة المشتهاة" أمامها، فداعبته وتدلّلت عليه وتعرّت كما لم تفعل يوماً في حياتها، لا حباً به وإنما بالصورة "المنسوخة" عن الجار/ الحلم. لكنها تدخل بعد وفاته في لحظة صراع مع الذات، تعيش على إثرها في ندم وحزنٍ عميق.
من خلال شخصية الأم، نلمس العلاقة المتداخلة بين شخصيات الرواية وفضاءاتها الزمكانية. فالأمّ هنا لا تعبّر هنا عن شخصية مازوشية بقدر تعبيرها عن وعي مشوّه بمفاهيم الرجولة والقوّة، حيث تتغذّى النساء بـ"فانتاسمات" حول الرجل العنيف، وتتربّى على تقبّل "العنف" باعتباره نوعاً من الرعاية والحماية. ولعلّ "قوّة" أمّها أو ربما قسوتها نابعة من هذا "الكبت" والصراع الداخلي بين ما عاشته وما رغبت، ولعلّها صورة عن أمهات كثيرات يعشن في عالمنا العربي محرومات من حقّ التعبير عن رغباتهنّ وأحلامهنّ وملذاتهن.
وفي مشهدٍ من أقوى مشاهد الرواية، تحكي بسمة قصة انتحار والده بعد شهور قضاها وهو يرفع يديه للسماء راجياً الموت. قبل حادثة انتحاره، كانت القذائف تقتل الناس وتدكّ بيوتهم بفعل حرب أهلية وحشية. لم تتمكن الأم من الهرب الى الملجأ كي لا تترك زوجها المقعد وحده. ولكن حين تجد نفسها وحيدةً، في حيّز الموت، مع رجلٍ عاجز يتبرّز على نفسه، تُصاب بحالةٍ هستيرية عنيفة، على غرار ما نراه في "مسرح القسوة". ومذاك، يقرّر أن يضع حدّا لحياته لعلّه يستردّ بالموت شيئاً من كرامته الضائعة.
هناك أيضاً شخصية أحمد، الروائي المثقف، الذي يصدم بموته حبيبته بسمة. هو الحاضر/ الغائب في حكاياتها وأفكارها وذكرياتها. وفي رسالته اليها يقول: "لا تتوقفي عن الحب، فأنا لست نهاية العالم. قلب البشر يتّسع لتجارب عديدة. مساحة العمر حقل كبير وواسع يشهد مواسم باستمرار. تنبت الأزهار وتعبق روائحها أحياناً وتتيبّس أحياناً أخرى" (ص135).
أما يوسف، فهو الشخصية الذكورية المحورية في الرواية. رسّام متحرّر يهوى الشعر، والنساء، يقع في غرام بسمة وتعيش معه حبّ حياتها، قبل أن تشهد حياته تبدلات راديكالية أنتجتها الحروب المشتعلة حوله. يوسف شخصية تراجيدية حقيقية، خساراته جعلته يركن الى المسلمات والخضوع لأفكار متطرفة، في حين أنّ خسارات بسمة كسرتها من دون أن تكسر عشقها للحياة.
وإذا سألنا عن قوّة بسمة وثباتها، فالجواب نجده في الجملة الأخيرة من الرواية: "في الحبّ احتمالات كثيرة".
"أن تعشق الحياة" رواية جديدة تعيد ثقتنا بالرواية العربية وقدرتها على الكشف ورصد اللحظات الانسانية الصراعية. رواية تستعيد التاريخ وتصوّر الواقع وترصد التحولات والايديولوجيات، بعيداً من التقرير والخطابات. إنها توظّف كلّ هذه الأفكار داخل سرد روائي بديع وممتع.