عن موقع القدس العربي بقلم عبد المجيد دقنيش ------------------------
تتمثّــــل رواية «الاشتياق إلى الجارة» الصادرة عن دار الآداب للنشر في بيروت 2020 في رصد متأّن ودقيق لتفاصيل الحياة اليوميّة ومراكمتها ومساءلتها بشكل مـوح ومدروس لكي تعكس واقعنا ومعيشنا بكل ما يزخـر من مشكلات وقضايا وتناقضات. كما نجد كل ما يميّز أسلوبه في الكتابة الذي يعتمد على التكثيف والتقشّف في اللغة والاقتصاد في الأحداث والاقتصار على فضاءات قليلة محدّدة مسرحا لهذه الأحداث. تدور أحداث الرواية في مدينة باريس. ويقع جزء كبير منها داخل عمارة. فضاء مغلق يفلح السالمي في تحويله إلى مسرح لتطوّرات دراميّـة مهمّة كما فعل في بعـض رواياته السابقة وتحديدا «نساء البساتين» و»عشاق بية» و»حفر دافئة». كل شــيء يبدأ بتعـرّف كمال عاشور الراوي بالصدفة على زهرة. كلاهما من الشخصيّات الرئيسيّـة في الرواية، بل إن الرواية كلها تقوم عليهما تقريبا. وكلاهما تونسي هاجر قبل عدّة أعوام إلى فرنسا واستقرّ في باريس. كمال أستاذ في الستين من عمره، يعمل أستاذا لمادّة الرياضيات في الجامعـة ومتزوّج من فرنسيّة ومندمج في مجتمعه الفرنسي الجديد، ويعيش حياة هنيئة رتيبة. وزهرة خادمة في الخمسين متزوّجة من رجـل غريـب الأطوار ولها ابن معاق. لا شـيء يجمع بينهما في الظاهر سوى أنهما من البلد نفسه، ويقيمان في العمارة ذاتها. يشـوب العلاقة في البداية شيء من الحذر والتعالي من قبل كمال. فهو لم يختلط منذ فترة طويلة بشخص ينتمي إلى فئة اجتماعية متواضعة، ولكـن بمرور الوقت يبدأ في التغيّر ويحـلّ محلّ هذا الحذر إحساس بالارتياح، إذ يدرك أن زهـرة امرأة ذكيّة ومهذّبة، فيزداد احتراما لها، ويعجب بشخصيتها، بل يكتشف في زيارة عابرة إلى شقتّها أنها تعلّق على أحد جدرانها لوحة أهدتها إليها رسامة خدمتها لفترة معينة، فيشعر بشيء من الحسد هو الذي لا يمتلك أيّ لوحة حقيقيّة في بيته «استرعت انتباهي لوحة فنيّة تمثل صـــورة امـرأة اكتشفت فيما بعد أنها صورتها. كانت معلّقة على الحائط مقابــل الكنبة، إلى جوار صورة رسمت فيها بخط كوفي جميل عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم». لم أكن أتصوّر أن أجد لوحة فنية في بيتها. أعترف بأني شعرت في لحظة خاطفة بما يشبه الحسد، فأنا لا أملك أي لوحة». يتزايد إعجابه بزهرة كلما ازداد اقترابا منها ومعرفة بشخصيّتها الثريّة رغم بساطتها. وفي الآن ذاته ينتبه إلى أن جسد زهرة ما زال يحافظ على جماله، وينجذب إليها كأنثى، وبســـرعة يتنامى هذا الانجذاب ويتحوّل إلى لعبة إغواء متبادلة. ثم يقع في حبّها وهـو أمر ما كان ليخطر في باله. يرى فيها فجأة المرأة العـربيّة التي ظلّ يحــنّ إليها في لاوعيه، «وذات مرّة بينما كنت أنظر خفية إلى خصلة تدلّت من شعرها حين انحنت لالتقاط قلـم سقط من بين يديها على الأرض، أدركت أن ما بيني وبينها تجاوز لعبـة الإغـواء البريئة إلى ما هو أقـوى. وسرعان ما فهمت أن الإحساس اللذيذ، الذي بدأ يتســرّب إلى نفـسي منذ فترة هو حبّ. نعم.. حبّ.. يا إلهي.. وقعت في حبّ جارتي زهرة». يحدث هذا الحب المفاجئ ارتباكـا في حياة كمال الهادئة، ويدفعـــه إلى طرح أسئلة ما كانت لتخطــــر على بالـه لفرط اندماجه في نمط الحياة الغربيّة. أسئلة عميقة رغم بساطتها الظاهرية، وتتعلّق بمفاهيـم أساسيّة مثل الهويّة والعلاقة بالأمكنة الأولى، بل حتى باللغـــة، تعيده زهره بدون أن تشعر إلى ما كانت الحضـارة قد أنستــه إيّاه.
تثير الرواية سؤال الهويّة، أو بتعبير آخر صراع الهويّات بين الأنا والآخر. يحفــــــــر السالمي برمزية جميلة، ويذهب بعيــــــــدا في وعي الشخصيات ونفسياتهم المتقلّبة.
«الاشتياق إلى الجارة» عمل روائي مفتوح وقابل لعدّة قراءات، ويمكننا أن نتوقّف عند ثيمات أخـرى فيها. ومن أهمّها حـوار الحضارات، وهو موضــوع يمتلك حضورا مهــمّا في روايات السالمي الأخـرى وتحديـدا «روائح ماري كلير». ويظهر هذا بوضـوح في علاقـــة كمال بزوجــته الفرنسية بريجيت، التي لا تقـلّ قيمة في الرواية عن الشخصيّتين الرئيستيــن وفي علاقة زهـرة بمخدومتها مدام ألبير. نتبيّن، في هذه العلاقات اختلافا في المفاهيـم والتصوّرات والسلوكات والمواقف من أمور أسياسيّة في الحياة، مما يعقّد العلاقـة ويخلق نوعا من سوء التفاهم يتجسّــــــد في الشجارات التي تنشأ بين كمال وزوجته بريجيت، وفي موقف مدام ألبير من طبيعة العلاقة التي تربط زهرة بزوجها غريب الأطوار. وتثير الرواية سؤال الهويّة، أو بتعبير آخر صراع الهويّات بين الأنا والآخر. يحفــــــــر السالمي برمزية جميلة، ويذهب بعيــــــــدا في وعي الشخصيات ونفسياتهم المتقلّبة. إنها لعبة مخاتلة. لعبة إثباث الذات والهويّة. أليست «الهويّة حلبة الصـراع الحقيقية بيننا وبين الآخر»، كما يؤكّد المفكّر عبد الوهاب المسيري؟ ربما هي اللحظة المتوتّرة العنيفة المعولمة في عالمنا المعاصـر، التي تدفع أكثر لمحاولـة استحضار الهويّة والدفاع عنها. فهذه الهويّة هي الحصن الأخير الذي سيحتمي به الإنسان اليوم للدفـاع عن خصوصيته وكينونته وإنسانيته، في ظلّ هذا العالم المادّي المتناقض الذي يسـعى الى تدجينه وجعله مجرّد رقم تجاري وروبوت في مصنع. لذلك يحاول كمال التأكيــد من أول صفحة من الرواية على أنه مختلف عن الفرنسيّين (الآخر) حيث يقول «كانت تتصـــوّر أنهم كلهم فرنسيّون، استغربت ذلك فكلّ ما في وجهي من ملامح يدلّ على أنني لست فرنسيّا. صحيح أن الفرنسيّين ليسوا كلهم شقرا بيض البشرة زرق العيون، بل هناك فرنسيّون يشبهـون العرب إلى حدّ ما. لكن هناك فرقا واضـحا بيني وبين هؤلاء». ويتواصل هذا السؤال وهذا «البحث عن الزمن المفقــود» من وراء أكمة القصّ والتخيّيل، ولعبة السرد المكثّف والمخاتلة في ما تبقّى من سراب الهويّة في دهاليـز الذاكرة، ومتاهات الماضي التليد، وخندق الغربة وأمواج العولمة المتلاطمة. كما نعثر عليه في عدّة نقاشات بين كمال عاشور وزهرة مثلا حيث يصبح التجذّر في الأصول والقبـض على ذاكرة المكان طريقة فعالة للتشبّث بالهويّة «سألتني بعد لحظة وقد تغيّرت نبرة صوتها: هل لك بيت في تونس؟ لا..لا؟ أستاذ كبير.. ولا بيت لك في تونس! تابعت وهي تخـطو صوب الباب للمغادرة: لا بد أن يكون لك بيت في بلدك..لا يجوز ألا يكون لك بيت في تونس.. كل ما تملكه خارج بلدك لا يساوي شيئا أمام ما تملكه في بلدك». لكـن الصراع يبلـغ ذروته حين تصبح المواجهة مباشـــرة بين كمال وزوجـته الفرنسيّة بريجيت، وفي أشـــدّ الأماكن حميميّة (غرفة النوم) إمعانا من الكاتب في لعبة السخرية ــ والترميز «وحالما أدرت لها ظهري سمعتها تقول: عجيب أمركم أنتم العرب.. وبعد برهة تابعت: كم تحبّون الحديث عن بعضكم. لم أردّ عليها على الرغم من أنني انزعجت. كنت أخشى إن فعلت أن تقول شيئا آخر فأزداد انزعاجـا وربما أنفعل. وقد تنزعج بدورها ومن المحتمل أن نتشاجر.. لكن لا بد من الإقرار بأن ما قالته لا يختلـف كثيرا عــما يقوله العنصريّون. إلا أن صمتي لم يدفعها الى التوقّف عن الكلام كما كنت آمل. لديكم عقليّة غريبة حقا». ويمكن أن نشير أيضا إلى موضوع علاقة العربي المغترب بوطنه وبماضيه وتراثه، وعلاقته بجسده وصلته بلغته. ثنائيّة النخبة والشعب.علاقة المثقّف بالسلطة والدين، لكن كل هذا يأتــي في ثنايا السرد. لا نشعر إطلاقا أن السالمي يقحمها في الرواية أو يضمّنها بشكل ميكانيكي.