تجربة طليعيّة تعرّي الجسد المريض الخائن وتنتصر له وبه عقل العويط
مَن تروي رواية "أنْ تعشق الحياة" لعلوية صبح، الصادرة لدى "دار الآداب"؟ هل الراوية تروي حقًّا أم الكاتبة؟ أعرف أنّ الراوية هي التي تروي. لكنّ الوقائع والتفاصيل والأحداث والأزمنة والأمكنة، ومعها بعض الشخصيّات، تومئ إلى الظلّ الخفيّ الهامس في عقل الراوية، ويكاد يمسك بيدها، ويملي ما يمليه، من دون أنْ تُستدرَج الرواية – تحت وطأة هذا الحضور الأنويّ السخيّ - إلى أراضي السيرة الذاتيّة. إنّها رواية لا سيرة، وهي رواية المرأة ( الأنا والنساء)، ورواية الجسد، والمرض، والحبّ، والأب والأمّ، كما الأمل والكفاح الروحيّ العظيم، بل رواية زمنٍ لبنانيٍّ بكامله؛ بأحواله، بأقداره، بناسه، بحروبه، بمآسيه، بزعمائه، بجلّاديه، وبالضحايا على السواء. تكمن أهميّة هذه الرواية في أنّها تتفرّد في إلقاء الضوء العميق والكثيف على الجسد الذي يقع في الفخّ الملحميّ الدراميّ الموجع للغاية: فخّ الانشلال الحيويّ، والانفكاك العصبيّ، وانفلات القياد الحركيّ، بحيث يصبح هذا الجسد نيزكًا فالتًا عصيًّا على توازنات مداره الكوكبيّ، أو كائنًا متمرّدًا وعاصيًا يتحرّك ويتصرّف خارج كلّ تدبيرٍ إراديٍّ. لكأنّه خارج نطاق الجاذبيّة الحكيمة التي ترشد حركاته، وتملي عليه الأفعال وردود الأفعال. فأيُّ تمزّقاتٍ، وأيُّ أوجاعٍ هي التمزّقات والأوجاع الواعية والنفسيّة التي تعصف بالكائن الذي لا يستطيع أنْ يوجّه انفعالات جسده وحركاته وتشنّجاته، ويضبطها؟! هذه التمزّقات والأوجاع، حالاتها الظاهرة ومضمراتها الخبيئة، يمكن تتبّع مساراتها الدراميّة في كتابةٍ جسدانيّةٍ جحيميّةٍ مهلكة، من واجب القارئ أنْ يعبّر – بلا مواربة - عن أحكام القيمة الرائعة حيالها. فالقارئ هذا يجد نفسه أمام خضمٍّ وصفيٍّ رائد، فيزيولوجيٍ حسّيً ونفسيّ وعقليّ، يتقاذف هذا الجسدَ ولغته الفاعلة والمنفعلة، ويأخذ به كلّ مأخذ. إنّه الجسد المصلوب في مأساة المهبّ، في الحريق، في الجهنّم، في حين يتلوّى العقل حياله شاهدًا، واعيًا، مدركًا، من دون أنْ يتمكّن من ردم الهوّة العصبيّة بين الأمر العقليّ والتلبية الجسديّة. سيفترض القارئ أنّه يتلصّص على هذا الجسد وهو يصغي إصغاءً فريدًا إلى الكتابة الساهرة - بوعيها المرهف والدقيق - على أحواله وظروفه وأعبائه، والقادرة في الآن نفسه على استبطان إيقاعاته اللاواعية، والتقاط المدركات الدفينة تحت طبقات العقل الباطن. هذه الصفحات الغفيرة في الرواية التي تتناول هذه الملحمة الجسدانيّة الفرديّة، تصلح أنْ تكون مادّةً دسمةً لعملٍ مشهديّ. أقول ذلك بيقينٍ نقديٍّ من شأنه أنْ يرجّف العقل والقلب على السواء، فيما لو أتيح لهذا النصّ الروائيّ مَن يوازيه بتجارب تشكيليّة، تعبيريّة (راقصة)، أدائيّة مسرحيّة، أو سينمائيّة. رواية علويّة صبح، تتيح التسلّل برحابة إلى هذه اللحظات والمطارح، حتّى لكأنّها تتحوّل إلى مسرح، إلى فيلم، حيث اللحظة المعيشة قابلةٌ لاستدراج أنواع الفنون إلى مصائرها. فأيُّ إصغاءٍ، وأيُّ كتابة! ليس الجسد الفرديّ، أو الشخصيّ، هو وحده "البطل" المأسويّ. جسد الآخر، أكان أبًا، أم أمًّا، أم حبيبًا، أم صديقةً، هو بطل. الحبّ أيضًا هو بطل. العشق خصوصًا. عشق الحياة مطلقًا، والعشق مجسّدًا ومعيشًا إلى آخر شهقاته وأنفاسه الحارقة. الحبيب والعشيق والزوج هو بطل. النساء الصديقات أيضًا هنّ بطلات. الأمّ والأب أيضًا وأيضًا. هنا، في هذا الباب تحديدًا، يصل الوصف الدراميّ إلى ذروةٍ شاهقة، حيث تشهد الصفحات للشيخوخة الأبويّة المشروخة شرخًا فظيعًا ومثيرًا ومهيبًا، مستدعيًا شآبيب الرفق والشفقة والرحمة، وحيث يُشوى الجسد المتداعي شيًّا بطيئًا تحت وطأة انهياراته الرهبة. وإذا كان مشهد الأب المغمور بخراء الحياة والمصير البشريّ غير مسبوقٍ في هذا السياق، فإنّ الأمومة، الأمّ الحانية، والأمّ المستفيقة إلى حياتها الآفلة، تستحقّ التقريظات والمدائح، محمولةً، مع الوالد، على بسطٍ وأبعادٍ دوستويفسكيّة حديثة بكلّ معنى الكلمة. اللبنانات، لبنان كلّه، بالانهيارات المجتمعيّة، بالتأكّلات البنيويّة، بالحروب، بالاقتتالات، بالفظائع، بالدسائس السياسيّة، بالأحزاب، بالطوائف، بالمذاهب، بالسلاح...، تركع كلّها تحت شمس العمل الروائيّ، وكلّها تتمدّد على المشرحة، حيث يعمل المبضع الجراحيّ الروائيّ عمله الفظيع، واصلًا إلى أعمق الأعماق، بشفافيّةٍ، بصدقٍ، بشراسةٍ، بوعيٍ هائل، وبجرأةٍ تتخطّى الممالآت والمواربات والاختباءات وراء الأصابع. لا تترك الرواية أحدًا، ولا طرفًا داخليًا أو خارجيًّا، ولا مكبوتًا، ولا أيّ "تابو" (أكان فرديًّا أم جماعيًّا، سياسيًّا وطنيًّا أم دينيًّا، فلسطينيًّا أم عربيًّا أم إيرانيًّا) بحيث يمكن اعتبارها شهادةً أدبيّةً تضاف إلى سجلّ الأعمال التي يُعاد إليها. قرأتُ الرواية مرّتين؛ مرّةً قبل أنْ تُنشَر، ثمّ قرأتُها كتابًا مليئًا، دسمًا، حافلًا، صادقًا، "حقيقيًّا"، وو"اقعيًّا"، بقدر ما فيه من تخييلٍ واختراع، وربطٍ وتداخلٍ ومواءمةٍ بين الافتراضيّ والفعليّ. هذا المصهر الكتابيّ الحيويّ، تجتمع فيه الأنا الكاتبة، والأنا الراوية، والنحن المجتمعيّة، اجتماعًا جديرًا بالقراءة المتأنّية. وإذا كانت الرواية تستفيض أحيانًا في الشرح بحيث يمكن حذف مقاطع منها، وإذا كانت تستعيد أحيانًا بعض الأجواء الروائيّة من أعمال علوية صبح السابقة، فإنّ ذلك قد لا يضيرها كثيرًا، بل يلفت إلى الكمّ الهائل غير المكتوب، الذي لا يزال مخزونًا في التجربة وفي الذاكرة وفي اللاوعي على السواء. "إنّي أعشق الحياة"، تجربة روائيّة فريدة وطليعيّة تعرّي الجسد المريض الخائن وتنتصر له وبه. [email protected]