كفى الزعبي «تقتل» مدينة الأب

كفى الزعبي «تقتل» مدينة الأب

عن موقع alquds.co.uk
بقلم  سلمان زين الدين
-

المدينة التي تتمخّض عنها الأحداث في رواية «مدينة أبي» للروائية الأردنية كفى الزعبي (دار الآداب) هي مدينة الماضي باعتبارها مدينة الأب، وهي مدينة الحاضر لعجز الأبناء عن اجتراح مدينتهم، فهل تكون مدينة المستقبل أيضا، ويعجز الأحفاد عن بناء مدينتهم؟
في الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من تلمّس مواصفات هذه المدينة، بدءا من عتبات النص حتى نهاياته، وما بينهما من أحداث ووقائع وتخيّلات. ولعلّ تحديد مواصفات مدينة الأب يجعل من السهولة بمكان المقارنة بينها وبين مدينة الأبناء، واستشراف المواصفات التي ستكون عليها مدينة الأحفاد، في عالم مرجعيٍّ خارج من إسار التاريخ، ويعيش على هامشه. ولعلّ إطلاق تسمية «المضارب» على المدينة، وتحديد موقعها بـ«المدينة التي لا تعرف البحر» يشيان ببداوة المدينة وصحراويّتها، ويومئان إلى هذا العالم المرجعي بوضوح، ويتيحان معاينة واقع المدينة واستشراف مستقبلها.

العتبة والنص

تُهدي الزعبي روايتها «إلى ناهض حتر وآخرين، رأوا الموت في طريقهم ولم يحيدوا عن الطريق». وإذا ما علمنا أنّ المُهْدى إليه ذهب ضحية السلطتين السياسية والدينية، جرّاء تمسّكه بقناعاته، بمعزل عن موافقتنا أو عدم موافقتنا عليها، وأنّ عددا من شخوص الرواية ذهبوا بدورهم ضحايا هاتين السلطتين، نستنتج أنّ عتبة الإهداء تشكّل مفتاحا مناسبا للنص. وإذا ما أضفنا إلى هذه العتبة قول أدونيس «ورأيت التاريخ في راية سوداء يمشي كمنهزم» الذي تصدّر به الكاتبة روايتها، نكون أمام عتبة أخرى تُفضي إلى المدينة المقصودة.

وصية الأب

بالانتقال من العتبات إلى النص، تبدأ الرواية، على المستوى النصّي، بقرار الراوي نبيل، المولود في غاربيا، مدينة الأم الواقعة في شمال الأرض وغربها، العودة إلى المضارب، مدينة الأب الواقعة في شرق الأرض وجنوبها، تنفيذا لوصية الأب بالمحافظة على بيت العائلة ومنع العمّ، اللصّ، الكاذب، النصّاب، المنافق، من وضع يده عليه، خشية هدمه وإقامة بناء حديث مكانه، ما يشي بتعلّق الأب بجذوره التي اضطرّته السلطة إلى الانقطاع عنها. وتشكّل هذه الواقعة بداية لسلسلة من الصراعات يكون على الراوي أن يخوضها، ويدفع الثمن غاليا.
ولئن كان تحدّر الراوي من أمٍّ غربية وأبٍ شرقي قد يوحي، للوهلة الأولى، بأنّ الرواية تعيد طرح سؤال العلاقة بين الشمال والجنوب، فإنّ مجرى الأحداث يبدّد هذا الإيحاء، ذلك لأنّها تحدث بمعظمها في الجنوب، ولا يحضر الشمال فيها إلاّ لماما.
تقوم الرواية على مجموعة من الثنائيات التي يتحرّك بينها مكّوك السرد، وتتمخّض حركته عن سلسلة من الصراعات التي تشتدّ أو تضعف حسب طبيعة العلاقة بين طرفي الثنائية الواحدة. وتتمخّض عن نتائج معيّنة تعكس موازين القوى على أرض الواقع. وهي صراعات ينخرط فيها الراوي، بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء من موقع الشهادة عليها، أو المشاركة فيها، ويكون عليه أن يحصد نتائج انخراطه. وتعكس طبيعة المدينة التي تدور فيها الأحداث وأنماط السلطات المتحكّمة بسير الحياة فيها.

بين الواقعية والرومانسية

الصراع الأوّل الخفيف يدور بين الراوي الذي يرغب في تنفيذ وصيّة أبيه والأمّ التي تخاف على ابنها، وتريد منه الانصراف إلى مستقبله. ويعكس نظرتين مختلفتين في النظر إلى مفهوم الوطن؛ غربيّة واقعية تمثّلها الأم، وترى أنّ وطن الإنسان هو حيث يقيم، وشرقية رومانسية يمثّلها الأب والابن وترى أنّ الوطن هو حيث يولد الإنسان. ومن هنا، حرص الابن على تنفيذ وصية الأب القاضية بدفنه في المدينة التي وُلِد فيها، ومنع العمّ من هدم منزل العائلة؛ فالمدينة والمنزل يرمزان إلى الوطن المفقود. ولعلّ ما يبرّر هذه الوصية المزدوجة، أنّ الأب سجينٌ سياسي سابق لم يستطع تحمّل وطأة السجن والتعذيب، ويُضطرّ إلى التوقيع على تعهّد يتخلّى بموجبه عن ممارسة السياسة مقابل إطلاق سراحه، ويخرج مجلّلا بالعار لأنّه خذل رفاقه ومدينته، ويسافر إلى مدينة غاربيا حيث يتزوّج وينجب ويقيم، من جهة، وحنينه إلى مدينته الأم، من جهة ثانية. حتّى إذا ما قام الابن بتنفيذ الوصية، يتيح للأب أن يحقّق في موته ما عجز عن تحقيقه هو في حياته.

بين الجذور والطحالب

الصراع الثاني يدور بين الراوي والعمّ حول بيت العائلة، فالأوّل يريد شراء حصّة الثاني بثمنٍ عادل تنفيذا لوصية الأب، والثاني يريد الاستئثار بالبيت لتنفيذ مآربه الخاصة. ولذلك، لا يتورّع عن استخدام الأساليب الملتوية لتحقيق هدفه، بدءا من المماطلة والتهرّب والتهديد والوعيد، مرورا بالمناورة والاحتيال والنفاق، وصولا إلى تدبير مكيدة تقضي على حبيبة الأوّل، وتكاد تودي به شخصياّ. وهنا، ينقلب السحر على الساحر، فيتمّ القبض على العمّ والتحقيق معه. وهذا الصراع يتكشّف عن عقليتين مختلفتين؛ الأولى يمثّلها الأب والابن تعكس المحافظة على الجذور، والثانية يمثّلها العمّ، لا تقيم وزنا لشيء، وتضرب بالقيم والأخلاق عُرْض الحائط، وتبرّر بالغاية الوسيلة.

بين العقل والجهل

الصراع الثالث في الرواية هو الأكثر إيلاما للراوي، ويُشكّل مع حبيبته سناء طرفه الأوّل، فيما يُشكّل أخَوا سناء المتطرّفان وطليقها والعم طرفه الثاني. وهو صراع يعكس العقلية الذكورية المغلّفة بالدين، في مجتمعٍ متخلّف، لا يعترف للمرأة بحقّها في الحياة والاختيار. فسناء فنانة تشكيلية، تُحقّق نجاحا فنياّ بكفاءتها ما يثير غيرة زوجها طبيب الأسنان، الذي ينتحل صفة الشاعر، ويتوخّى النجاح بأساليب ملتوية، حتى إذا ما بلغت به الغيرة حدّ الإغارة على مشغلها، وتحطيم لوحاتها، تتّخذ قرار الانفصال عنه، في اختيار واضح لحريّتها. وهي تؤثر أمومتها على سعادتها، فتتريّث في قبول عرض الزواج من نبيل، رغم حبّها له، خشية أن يأخذ طليقها ابنها منها. وتتصدّى لرغبة أخوَيْها في تقييد حركتها والحدّ من حريّتها في علاقتها بحبيبها. وتُقتل على يد أخيها الأصغر المتطرّف دينياّ باسم المحافظة على الشرف، وهي التي طالما مدّت له يد المساعدة، وأنقذته من شرّ أعماله، وبذلك، تتألّب عليها غيرة الطليق، وجهل الأخ، وتحريض العم، وذكورية العقل، وسطحية التديّن. ويدفع نبيل الراوي ثمن هذا الصراع غاليا، فيتردّى في صدمة كبيرة، لا يخرج منها إلّا بمساعدة أمّه، لكنّه ما يلبث، في نهاية الرواية، أن يتّخذ قرارا بالعودة إلى المضارب رغبة في الانتقام، ما يعني أنّ تحرّره من الصدمة لم يكن ناجزا.

بين السياسي والديني

وإذا كانت هذه الصراعات الثلاثة تتّخذ طابعا اجتماعياّ خاصاّ، وتدور في فضاء روائي واقعي بأحداثة ولغته، فإنّ الصراع الرابع والأخير يمزج بين العام والخاص، ويختلط فيه السياسي بالديني، ويشكّل محور الرواية. وهو صراعٌ بين السلطة والمعارضة، بالمعنى السياسي، وبين العقل والجهل، بالمعنى الديني. ويدور في فضاء كابوسي غرائبي بأحداثه ولغته. ويتمخّض عن انتصار السلطة على المعارضة، وتغلّب الجهل على العقل، وتحكّم العامة بمصير الخاصّة، وهذه النتائج تتمظهر في الرواية من خلال وقائع روائية معيّنة.
في هذا الصراع، تستوحي الزعبي من ناهض حتر، الذي تهدي روايتها إليه شخصية المناضل السياسي المعارض، في دفاعه عن قضايا الناس والمدينة، وسعيه إلى تغيير الواقع القائم. فتعتقله السلطة السياسية، ويدفع غاليا ثمن نضاله وتمسّكه بمبادئه، ما يجعله الوجه الآخر لأب الراوي، الذي لم يتمكّن من الصمود، ويغدو بمثابة الأب الروحي للراوي، الذي يقوم بالتقصّي عنه وكتابة قصّته، ما يجعلنا إزاء رواية داخل الرواية. حتى إذا ما أُطلق سراحه يهيم على وجهه، يبحث عن بيت لا يعرف مكانه، ويطارد شخصا لا يعرفه، ويلتقي بأشخاص لا أسماء لهم، ويرى وجوها متشابهة. وإذ تقوده خطاه إلى محاضرة في مكانٍ ديني يحاضر فيها شيخٌ عن الحور العين، ويرغّب الحاضرين في الموت للحظوة بهن، ويسمع بأذنيه ترّهات المحاضر، تنطلق منه قهقهة غير إرادية، تلفت الأنظار إليه. وإذا بالذين كان يدافع عن قضاياهم ويتحمّل السجن في سبيلهم، يصبّون عليه جام غضبهم وشتائمهم، ويتربّصون به الدوائر، ويتحيّنون الفرصة للإيقاع به.

اغتنام الفرصة

هنا، تغتنم السلطة السياسية الفرصة، فتعتقله بذريعة حمايته من العامّة، وتسومه العذاب ألوانا، حتى إذا ما شبعت منه تطلق سراحه ليلقى مصيره المحتوم قتلا على أيدي الذين كان يتبنّى قضاياهم ويدافع عنهم، في نهاية فاجعة تعكس سخرية القدر وفظاعة الجهل. وبذلك، تتناوب السلطتان السياسية والدينية على التنكيل به، في تواطؤ غير معلن بينهما، فتسقط أحلام المدينة بالتغيير. ويتوزّع الناس بين ضحايا الجهل والدين والسياسة وضحايا الضحايا. ويأتي موت الأب الروحي للراوي ليكمل موت الأب البيولوجي، ويضاعف من إحساسه باليتم.
وعليه، فإنّ مواصفات مدينة الأب تجمع بين: الاستبداد السياسي، والتطرّف الديني، والعقل الذكوري، والبؤس الاجتماعي، والتخلّف الحضاري. وهي نفسها مدينة الأبناء الذين لم يستطيعوا بناء مدينتهم. وأخشى ما نخشاه أن تبقى هي نفسها مدينة الأحفاد، ذلك أنّ الحاضر ابن الماضي، والأخير أبو المستقبل.