رلى الجردي ترسم تحولات الحياة في "مئة رعشة"

رلى الجردي ترسم تحولات الحياة في "مئة رعشة"


04-07-2021 | 18:17 المصدر: بيروت- النهار العربي
سلمان زين الدين
annaharar.com

تتعدّد دلالات العنوان وتختلف في متن "مئة رعشة" للروائية اللبنانية المقيمة في كندا رلى الجردي (دار الآداب). فهي عدد رعشات العصفور خلال احتضاره (ص 56)، والمحبة الإلهية التي تجسّدها تلك الرعشات (ص 116)، وخفقان قلب الجنين في الرحم (ص 118)، وعدد الخفقات (ص 124)، وحركة يد الموسيقي خلال العزف (ص 138)، وعدد ضرباتها على مفاتيح البيانو في الدقيقة (ص 10). وهذه الدلالات، على تعدّدها واختلافها، تحيل إلى الحياة التي تتكثّف في لحظات معيّنة، تسبق الولادة والموت، وتزامن العزف، المعادل الموسيقي للحياة.

 

  تحولات مختلفة

"مئة رعشة" هي الرواية الثالثة لصاحبتها، بعد "الكثافة" (2007)، و"في علبة الضوء" (2018). وفيها تقوم الكاتبة برصد مجموعة من التحّولات، الجسدية والنفسية والمكانية والسياسية، في العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية. وهي تفعل ذلك بعين راويتها لمى، الشخصية المحورية فيها، المنخرطة في مجموعة من الأحداث، تحدث في طرابلس اللبنانية وفيلادلفيا الأميركية، بين أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، سواء من موقع المشارَكة فيها أو الشهادة عليها، وتشكّل الطرف الثابت في شبكة من العلاقات الثنائية يتغيّر طرفها الآخر بتغيّر المكان والزمان، ويتمثّل في مجموعة من الشخوص الروائية، المتفاوتة الحضور والتأثير في مجرى الرواية، ويتمظهر في الجد والأب والأم والصديقة والحبيب والزوج والابن والصديق والجارة وغيرهم.

لكنّ حضور هذا الطرف المتغيّر يتراوح بين المباشر في الوقائع السردية وغير المباشر في الذكريات المستعادة. مع الإشارة إلى أن الراوية المتموضعة بين الوطن والمهجر، الماضي والحاضر، المثقلة برواسب الماضي وهموم المستقبل، غير المتصالحة مع واقعها وذاتها، تهرب من الوقائع إلى الذكريات، في محاولة منها لاستعادة توازن مفقود، في بعض الأحيان، وتهرب من الذكريات في محاولة لاجتراح وقائع جديدة، في أحيانٍ أخرى.

 

ثنائيات متعدّدة

تحت هذه الثنائية العامة، الراوية/ الشخوص، تندرج مجموعة من الثنائيات التي تتحرّك بينها الأحداث، وهي ثنائيات زمنية أو مكانية أو بشرية، متنوّعة في الدرجة والنوع. وأبرزها: التاريخ/ المعاصرة، الماضي/ الحاضر، الحاضر/ المستقبل، لبنان/ أميركا، طرابلس/ فيلادلفيا، باب التبانة/ ألنتاون، الجد/ الحفيدة، الأم/ الابنة، الزوج/ الزوجة، الحبيب/ الحبيبة، الرجل/ المرأة، وغيرها.

النسيج الروائي هو نتاج حركة السرد بين أطراف هذه الثنائيات المتنوّعة، بشكل أو بآخر. على أن الطرف الثابت في الثنائيات البشرية تبقى الراوية (لمى) التي تتغيرّ وظيفتها بتغيّر الطرف الآخر من الثنائية. فهي الحفيدة والابنة والزوجة والحبيبة والجارة، وهي المرأة في جميع الوظائف. بينما الطرف المتغير في الثنائيات هو الشخوص الأخرى على تعدّدها. 

 بين ماضٍ لا يمضي ومستقبل لا يجيء، تتموضع لمى في بلدة ألنتاون الأميركية، وتعمل في وظيفة مؤقّتة في إحدى كليات جامعتها، بانتظار الحصول على الدكتوراه في علم الأوبئة، وتعيش حياة زوجية متقشّفة مع زوجها زياد الذي يسعى لنيل الدكتوراه في الأنثروبولوجيا. وبذلك، يجمع الزواج والطموح بين الزوجين، وتفرّق بينهما شؤون أخرى، من رواسب الماضي أو إفرازات الحاضر، تحول دون قيام علاقة زوجية منتظمة بينهما قائمة على الحب والاستقرار.

يسافر هو للعمل في تنزانيا برفقة زميلته سيلفيا التي يتّخذ منها عشيقة لبضعة أشهر. وتبقى هي في ألنتاون، في حالة من الخواء الروحي والاغتراب النفسي، وقد فقدت القدرة على الدهشة والحلم، وظلّت معلّقة بين ماضٍ يأبى المضي بما ترك في نفسها من ندوب ومستقبل يعصى المجيء بما يكتنفه من أحلام. تتردّى في منطقة الحاضر الوسطى، لا تستطيع أن تنسى الماضي وتبرأ من ندوبه، ولا تستطيع صناعة المستقبل وتحقيق حلمها في كتابة أطروحتها الجامعية.

 
 

جوانب مضيئة

 في وسطيتها، لا تعدم لمى أن تجد في ماضيها جانبًا مضيئًا، تلوذ به وتحنّ إليه. يتمثّل في شخصية الجد أبي طلعت الذي يحب الحياة، ويقبل عليها بشغف، ويسمع أم كلثوم، ويشجّع حفيدته على دراسة الموسيقى، ويضيق ذرعًا بالتديّن السطحي، ويأنف من مظاهر التشدّد الديني، ويسخر من المتشدّدين، وينفتح على الآخر المختلف، ما يكسر الصورة النمطية لشخصية الجد في المأثور الروائي العربي.

ولا تعدم أن تجد في حاضرها جانبًا مضيئًا يخفّف من قتامة الواقع، يتمثّل في تعرّفها إلى يوسكا العازف المبدع الذي يرتجل الموسيقى، ويوقظ فيها حلمًا قديمًا في العزف، أجهضته أمّها ببيع البيانو الذي كانت تعزف عليه، ويفتح حنينها على عالم مسحور عرفته في باب التبانة، فترى حلمها الموسيقي المجهض يتحقّق في يوسكا.

على أنّ هذا الجانب المضيء من الحاضر يستحضر بدوره شبيهًا له من الماضي البعيد؛ يوسكا العازف الماهر، الملم بالتصوف، العاشق العربية، الطالع من ظروف اجتماعية قاسية، يستدعي مارديروس الأرمني الذي شهد صغيرًا تهجير أسرته وموت بعض أفرادها بوباء الطاعون، وتعرّض للإخصاء والتحرّش الجنسي، حتى إذا ما حطّت به الرحال في باب التبانة، ينضمّ إلى زاوية والد جدها الصوفية، يشغف بالتصوف، يتقن العزف والغناء، ويقبل على الحياة متخطّيًا مأساته القديمة.

هكذا، يشبه يوسكا الجديد مارديروس القديم، وتراهما لمى "صورتين لنداء روحي واحد، لشوق واحد إلى معانقة الوجود، إلى التوحّد مع العالم والطبيعة، إلى تخطّي كل أنواع الانقسامات" (ص 83). وهكذا، تصدّر الكاتبة عن منظور روائي إنسانوي يتخطّى الانقسامات الدينية والقومية، ويصدّر عن منابع روحية.

على الرغم من الضوء الذي يتسرّب من شقوق الجد أبي طلعت ويوسكا ومارديروس إلى حاضر الراوية، فإنّ أقباسه لم تكن كافية للتحرّر من الماضي، والتصالح مع الحاضر، والتطلّع إلى المستقبل. الأول يطاردها بحلم موسيقي مجهض وحبٍّ أوّل عابر. الثاني يرخي عليها بعلاقة زوجية تفتقر إلى الشغف، وتكتنفها البرودة العاطفية والجنسية. والثالث يشعرها بالعجز عن كتابة الأطروحة. وبالتالي، تعيش البطلة / الراوية غربة مكانية، واغترابًا نفسيًّا، وخواءً روحيًّا، وعجزًا عن الفعل. غير أن تطورات معيّنة تطفو على سطح الأحداث ستكون كفيلة بتغيير هذه الحالة وإحداث تحوّلات جذرية في شخصية بطلة الرواية.

 

 

جوانب قاتمة

إذا كان الماضي المتعلّق بالجد يشكّل ملاذًا للراوية تفيء إليه كلّما أوصدت دونها سبل الحاضر، فإنّ الماضي المتعلّق بالأم ومدرّسة الموسيقى نايرة والحبيب العابر جلال سيشكّل مرضًا ملازمًا تعاني منه، ويقف حائلاً دون أن تعيش حياتها الطبيعية متصالحة مع الواقع والذات. ذلك أن قيام الأم ببيع البيانو وحرمان ابنتها من متعة العزف، وامتناع مدرّسة الموسيقى عن إبداء أي ملاحظة تشجيعية لتلميذتها، وتواري الحبيب خليل عن الأنظار بعد علاقة حميمة لم تتعدّ مدتها الساعات الثلاث، تجعل الراوية تشعر بالنقص كابنة، وتفقد الثقة بالنفس كعازفة، وتفتقر إلى الشغف كزوجة.

لكنّ صدمتين اثنتين تحصلان في أواخر الرواية وتحدثان تحوّلاً جذريًّا في حياتها، وتعيدان الأمور إلى نصابها الطبيعي؛ الصدمة الأولى إيجابية، تتمثل في لقائها بمدرّسة الموسيقى، بعد عودتها إلى لبنان، وتسمع منها اعترافًا متأخّرًا بموهبتها الموسيقية، لم تبح به في حينه مراعاةً للأم التي تريد لابنتها مسارًا آخر، ما جعلها تستعيد شيئًا من الثقة بموهبتها الموسيقية.

والصدمة الثانية سلبية، تتمثّل في قيام جلال، بعد لقائها به في منزل أخته سميحة، بخطفها ووضعها في شقة ومحاولة إكراهها على الزواج منه، مستخدمًا سلطته الطارئة كأمير جماعة إسلامية متشدّدة، ما يجعلها تستيقظ من وهم الحب العابر، وتتحرّر من برودتها الزوجية، خاصّة بعد أن قام الزوج بإنقاذها من بين براثن الحبيب المزعوم. وبذلك، تتحرّر لمى من رواسب الماضي وندوبه، وتصبح جاهزة لاستئناف حياتها بشكل طبيعي.

ولعلّ قيامها بالعثور على البيانو الصغير الذي أهداها إياه الجد ذات يوم، وتقديمه لطفلها الصغير أنور، وضرب الأخير "بأصابعه على المفاتيح دفعة واحدة"، في نهاية الرواية، تشي بإمكانية تحقّقها كعازفة من خلال الابن، وتترجم التحوّل الإيجابي الذي يطرأ على بطلة الرواية.

وهو ما ينسحب على زوجها زياد الذي يكتشف حبّه لها، بعد خيانة عابرة واعتراف شجاع وندم صادق، فتعود المياه إلى مجاريها بين الزوجين. على أنّ تحوّلات أخرى سلبية، تسبق التحوّل الإيجابي، تحدث في الرواية، على المستوى المكاني والبيئي والسياسي؛ فتغزو المؤسّسات التجارية والمباني العالية المدينة، وتأكل ذاكرة الشاطئ، وتحجب البحر عن بيت الجد في باب التبانة، وتتلوّث البيئة البحرية، وتنتشر ظاهرة التطرّف الديني والتعصب الطائفي على هامش المدينة.

وعليه، تشكّل "مئة رعشة" حيّزًا للتفاعل بين التحوّلات السلبية والإيجابية، الفردية والجماعية، الزمنية والمكانية، البيئية والسياسية. وترصد نتائج هذا التفاعل وانعكاساته المباشرة على الأفراد والجماعات والأمكنة، ما يحوّلها إلى رواية مفيدة، مفتوحة على حقول معرفية مختلفة، ويجعل قراءتها محفوفة بالمتعة والفائدة.