ماريز كوندي تنتظر الطوفان ليجرف جذور العنف وهيمنة الإستعمار
تستهل الروائية الفرانكوفونية الغوالدولوبية ماريز كوندي روايتها "في انتظار الطوفان" بجملة للروائي الفرانكوفوني أمادو كوروما (شاطئ العاج) "الله ليس مضطراً" وهي عنوان إحدى أشهر رواياته، ربما لتضعنا في قلب الغموض الذي يسيّج بما يشبه الحصار الوجودي، ظاهرة العبث التي تجتاح العالم. هل هذا ما رمت إليه ماريز كوندي من هذا الاستهلال، لترمي الكرة في ملعب البشرية سواء أكان مَن فيها ظالماً أو مظلوماً؟
وإن كانت أحداث الرواية تتنقل ما بين أفريقيا وغوادولوب وهاييتي ومجموعة جزر الكاريبي، فهي أيضاً تعبر بيروت ومعاناة فلسطينيي لبنان، من خلال تشكيلات الشخوص التي توظفها في الرواية. بل لتعبر (ربما) عن حالة العبث الوجودي الذي يكتسح العالم على شكل حروب وفساد وصراع عبثي على السلطة، يتخذ من العنصرية ستاراً له ومن الأطماع الأميركية وقبلها الفرنسية، سياقاً عاماً لهذا العبث، ولهذا العنف.
أقدار غامضة
تنتقل ماريز كوندي بنا في غياهب تفاصيل مشتتة مترابطة تتطلب من القارئ تركيزاً عالياً في القراءة، يتقاطع تشتتها مع عبث يتناسل بعضه من بعض، ليتطابق مع قصة الشتات والأقدار الغامضة التي تواجه شخوص الرواية وأبطالها، وتضع حيواتهم في مهب رياح هذا العبث الذي يبدد المعنى ويثير الشك حول الجدوى من مواجهة هذه الأقدار. ويضع مفهوم الانتماء أيا كان موضع تساؤل ليمتد إلى سؤال الانتماء إلى الإنسانية. فما يعيشه الطبيب الأفريقي باباكار من ضياع بوصلة حياته بين مالي مسقط رأسه في أفريقيا السوداء، وهاييتي مسقط رأس موفار، صديقه الحميم وعشيق رينيت والدة ابنته آناييس التي تبناها بعد وفاة والدتها أثناء الولادة، يضعه في حمى النزاعات المسلحة. نزاعات لم يفهم مبرراتها قط. بل رفض مبرراتها هذه ولم يجدها سبباً لتبديد حيوات عشرات الآلاف بل الملايين، إن عبر الاستيلاء على أملاكهم، أو تشريدهم وتركهم جوعى عراة في قعر عالم يعج بمتناقضات لم يتمكن من فهمها أو هضمها.
هذا الضياع قاده للتعرف إلى فؤاد الفلسطيني صديق موفار، الذي ساعده على الهرب إلى أفريقيا بحثاً عن حياة أفضل وترك شقيقتيه أمانة عنده في هاييتي إلى أن يعود. ففؤاد نفسه كابد صعوبات حياة مريرة في عبث الحرب اللبنانية، وأُجبر على الهجرة إلى الكاريبي هرباً مما عاناه اللاجئون الفلسطينيون بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث اختلطت المعاناة الفردية بالجماعية، ودفع الاضطهاد العنصري في لبنان الآلاف منهم للهجرة إلى شتات أكبر، للبحث عن مصائر بعثرت نضالاتهم وزعزعت طمأنينتهم في بلاد اللجوء الشقيقة، التي بدورها ابتلعتها دوامة العنف العبثي في أكثر من بلد.
تتطرق الرواية إلى قضايا سياسية تتنوع بين هواجس التحرر الوطني والتحرر من نير الاستبداد في جغرافيا الرواية برمتها. تتناسل فيها إشكاليات الهجرات الجماعية والخلاص الفردي، وتتقاطع في آن واحد مع نزاعات الصراع الطبقي بحسب ماريز كوندي، التي تتموضع فيها التمايزات الإثنية والعنصرية وانحطاط المعايير الأخلاقية، سواء في شيوع فساد الساسة أو سيطرة العصابات المنظمة على الشوارع في هاييتي، يعيثون فيها قتلاً ونهباً. هنا تغيب الطبيعة الخلابة لهاييتي خصوصاً، وجزر البحر الكاريبي عموماً، التي تتشارك مع مالي بوصفها مستعمرات فرنسية قديماً وتنتمي إلى الدول الفرانكوفونية، لا سيما مع استمرار العائلات الميسورة بالتفاخر في تربية أبنائها باللغة الفرنسية على حساب اللغة الكريولية لسكان هاييتي، كنوع من التمايز الذي يوفره الانتماء الثقافي للمستعمِر. في الوقت ذاته، تمر الروائية الفرانكوفونية ماريز كوندي على تفسير بعض دورات العنف العبثي بوصفه ستاراً للسياسة الأميركية في إحكام السيطرة على هاييتي وغيرها من جزر الكاريبي التي تصل إلى حد تدميرها وتدمير بناها التحتية، وتركِها لقمة سائغة لغضب الطبيعة على شكل زلازل، وشح في المحاصيل الزراعية والمياه النظيفة ومواجهة الأعاصير والفيضانات، وهي على غير استعداد، بينما يتوزع آلاف الجوعى والمرضى في الشوارع بلا مأوى أو حماية.
لا تفلح المحاولات العديدة التي يبذلها الطبيب باباكار في التخفيف من هذه المعاناة. بل يتعرض شخصياً للمخاطر ذاتها حين يغادر مالي إلى هاييتي بعد أن يقنعه موفار بتنفيذ وصية رينيت واصطحاب ابنته بالتبني آناييس، للتعرف إلى شقيقة أمها ستريللا. يكتشف باباكار هناك أن ستريللا تكره أختها رينيت لأنها فضحت أباهما مع حبيبها الصحافي ليو من خلال وثائق تثبت أعماله الفاسدة مع حاكم هاييتي السابق جان كلود الذي كان طبيبه الخاص، وأيضاً ابن خاله لأمه سيمون أوفيد. وهو ما أغضب ستريللا حينها، وقطع أية رغبة منها باحتضان آناييس لاحقاً، وهو أمر لاءم باباكار وأراحه. لكنه من ناحية أخرى سوف يقلل من فرصه في الالتقاء بستريللا التي يقع أسيراً لجمالها على الرغم من زواجها من كريستوف الثاني الذي كان متيماً بها وتم خلعه لاحقاً كرئيس لهاييتي.
تفاصيل مربكة
في رواية تعج بتفاصيل مربكة، وتقوم على حبكات عدة متوازية ومتقاطعة تعتمد فيها ماريز كوندي التناسل السردي للأحداث والحقائق، كما المشهدية الوصفية والسير الذاتية لشخوص الرواية الأساسيين. وعلى الرغم من إيرادها العشرات من أسماء المثقفين المحليين والغربيين، تلمح كوندي من خلال الأحداث، إلى عجز الثقافة عن إحداث تغيير يذكر في وقف المعاناة الوجودية للإنسان أينما كان. وفيها يرد اسم الشاعر الفلسطيني محمود درويش بدوره كمثال عن هذا العجز، على الرغم من إعجاب فؤاد بأشعاره ورغبته العارمة في أن يكون محمود درويش ثانٍ للشعب الفلسطيني، وهو ما يتطلب منه الهجرة إلى الولايات المتحدة ودراسة الكتابة الإبداعية على طريق هذا الحلم. وإذ بفؤاد يستبدل فيه حلم العودة إلى فلسطين أو لبنان، على ما تلمح له كوندي في معرض ثيمتها الأبرز وهي ضياع البوصلة في خضم دورات العبث العنيفة التي لم تترك بلاداً كثيرة من شرها.
لست متأكدة من استعارة "ماريز كوندي" التخييلية لأم باباكار " تيكلا" (التي توفيت باكراً وصارت تزور ابنها في أحلامه وتوجهه إلى خياراته أو تمنعه من بعضها) أنها استعارة مقنعة في الغرض التي وظفتها من أجله. ربما كانت بحاجة إلى خلفية تكمل شخصية باباكار الطبيب عوض اللجوء للمونولوج الداخلي الذي يلجأ إليه الروائيات والروائيين كدعامة أساسية في السرد الروائي. فباباكار طبيب لا يقرأ كثيراً، وغير مهتم بمعرفة التاريخ إلا من خلال قصص جدته لأبيه، أو معرفة أمه الواسعة ذات التوجهات اليسارية ، فهو يعيش في شرنقته وحيداً إلا من آناييس وأمه تيكلا التي شكلت له الحب المطلق، على الرغم من وقوعه في الحب أكثر من مرة مع أزيليا التي تزوجها وحملت منه ابناً لم يستطع رؤيته بسبب اعتقاله من قبل الجنوبيين لاتهامهم له بالتجسس لمصلحة الشماليين بسبب علاقة الصداقة التي ربطته بزعيمهم حسن، الذي تعرف إليه في كندا حين أرسل في بعثة جامعية للدراسة فيها لحصوله على معدل علامات مرتفع جداً. هذه الصداقة التي شكلت جزءاً عزيزاً على قلبه انهارت أمام أنانية الصديق الساعي للسلطة لتوضع الصداقة موضع تساؤل. ماتت أزيليا أو فقدت مع ابنها، ثم خسر جهيرة أخت موفار الذي خسر حياته، وهو يبحث عن عمل في إحدى جزر الكاريبي سعياً لجمع مبلغ عشرة آلاف دولار لمعرفة مصير رينيت، وهي نفقات الأرواح التي تتكلم معها إيفان العرافة التي التحدث مع الأرواح. لكن موفار قتل في ظروف غامضة. قتله قريبه الذي لجأ إليه من أجل حفنة ضئيلة من الدولارات.
الصورة الكاملة
من الصعب الإمساك بمحور تفاصيل الرواية. إذ تشعبت لدرجة يصعب تفكيكها أو ضمها أو رؤية الخط الرابط بين هذه التشعبات، إلا من خلال رؤية الصورة الكاملة من فوق متن الرواية التي لا يظهر فيها إلا العنف العبثي الذي تتبعثر فيها الحيوات. ولا يسع باباكاررلا أن يكون مستسلماً لهذا العنف حيناً وناقماً حيناً آخر، لكنه غير قادر على الفهم. بل عاجز عن مواجهة حقائق عالم يعج بالمتناقضات. تتزاحم حوله وبداخله ولسان حاله يسأل، إلى أين؟ إلى متى؟ وعلى الرغم من ذلك حين يقرر باباكار الرحيل إلى الولايات المتحدة ليرافق فؤاد إلى حلمه هناك، يقع زلزال عنيف يدمر برج المراقبة ومباني المطار وتتشقق الأرض عميقاً فيعانق آناييس بشدة إلى صدره في ما يعتبره إشارة بعدم المغادرة. فيودع فؤاد آخر من تبقى من أصدقائه، ويلاحق إشارة أن يبقى في هاييتي مسقط رأس أم آناييس كي يساعد الناس على رفع الأنقاض ويرمم حيوات من يحتاجونه. وإذ ذاك يتخلى فؤاد عن حلمه كي يلتحق بصديقه باباكار إلى مصير يعرفان أثقاله في الأقل. وليبدآ معاً ومجدداً رحلة جديدة بالمواجهة. فتجربة المواجهة مع فؤاد بدأت حين تخلى رعاة دار الأيتام عن دعمهم للدار. فقد تولى باباكار إدارتها كطبيب توليد وتوسع في تقديم خدمات اجتماعية للمرضى والأمهات والفقراء بالتنسيق مع البلدية عن دعمهم للدار وتوليه بمساعدة فؤاد مسؤولية استمرارها. و لكن مالك العقار الذي أقيمت عليه الدار يبلغه بعد حين عرضه للبيع لشركة صينية مستثمرة ترغب في أن تقيم على أرضه فندقاً سياحياً خمس نجوم، على الرغم من الاضطرابات التي قيل إنها ستنتهي وستستعيد هاييتي حيويتها على الخريطة العالمية لاتفاقات السلام الموعودة. هل هي إشارة رمزية للنفوذ الصيني المتزايد حول العالم الذي يوحي بمزيد من العبث باقتصاد العالم؟ ربما!
"في انتظار الطوفان"، رواية مفتوحة على تأويلات متوازية عديدة تشبه مرآة حملتها ماريز كوندي الروائية الفرانكوفونية الحائزة جائزة نوبل للأدب البديلة لعام 2018، ربما لتعبر بنا إلى متاعب كوكب يواجه مصيراً مروعاً متعدد الرؤوس، يحتار أياً منها يقطع وأياً منها يمكن مداراته من غير أن نغفل حقيقتنا في أننا جميعاً نتشارك الخطايا كما نتبادل النظرات.
في انتظار الطوفان للروائية ماريز كوندي الفرانكوفونية (من جزيرة غوادولوب) صدرت حديثاً عن دار الآداب اللبنانية. نقلها للعربية معن عاقل.
- عن موقع independentarabia.com سامية عيسى - الأحد 5 سبتمبر 2021 -