عالية ممدوح في ‘الأجنبية’: كتابة الألم بامتياز

عالية ممدوح في ‘الأجنبية’: كتابة الألم بامتياز


بعد أن قرأت رائعة عالية ممدوح ‘غرام براغماتي’ التي صدرت قبل سنتين، كنت خائفة ألا تكتب ممدوح شيئا ً إطلاقاً لأن في الكتاب المذكور وصلت الروائية العراقية الى ذروة العطاء الروائي، بلغت اوج الإبداع الكتابي في جمالية لا تضاهى. لكنها لم ترضخ للإكتفاء الذاتي ولا تزال تفاجئني وتفاجىء القارىء العربي والأجنبي (وقد تُرجمت معظم رواياتها الى لغات عدة)، وها هي تصدر مؤخراً ‘الأجنبية’ عن ‘دار الآداب’ لتؤكد لنا مرة جديدة ان المبدع لا يمكنه ان يخيّب أحداً في مستوى إنتاجه، وهو تاليا ً لا يمكنه ان ينضب بسهولة. صحيح ان لدى كل مبدع كتاباً يشكل مسك ما انتجه وقمته، لكن لدى عالية ومَن هو من طينتها، القدرة على المواصلة في المستوى ذاته في كل إصدار، فلا يصعدون تارة ويهبطون تارة أخرى. أعني ان عالية تحافظ كما كبار المبدعين، على مستوى واحد في عطائها الكتابي. كلما كتبت كلما تبلورت كتابتها وازدادت توهجاً.
‎‘الأجنبية’ ليست رواية عادية. انها اكثر من رواية وأبعد من سيرة ذاتية. لست قادرة على تصنيفها لأنها خاصة في تعاطيها مع هذه المادة، حيث الفردي والذاتي تداخلا مع العام وكل مهاجر عربي وأجنبي عامة يجد نفسه في هذا الكتاب، يلتقي مع عذابات امرأة عراقية ذاقت الأمرين في عزلتها الباريسية وهجرتها الأوروبية وجرأتها في قراراتها الخارقة، كأن تترك زوجها مثلاً طلباً للحرية وبحثاً عن أفق جديد. لكنه العذاب المزدوج لأنها من جهة تتألم في غربة قاسية ومن جهة أخرى تتألم من ذكرى بلد ومدينة وأب وأم وعمة وأخ في عراقها البعيد المنال. انه ألم الإنسانية جمعاء في عصرنا الحديث. انه ألم الخوف الذي لطالما ذكرَته.
‎لكن ما هذا الخوف المريب والفظيع الذي ينهش روح الكاتبة ؟! ما هذا الشعور الهائل والمستحيل الذي يرافقها طوال روايتها، طوال حياتها الباريسية ؟! فيقشعر بدن القارىء عند وجوده امام محطات كثيرة ومتوالية حيث الكاتبة تذكر خوفها. الخوف من كل شيء يحيط بها. الخوف هو كما أسمته هي في أحد فصول الكتاب: انه ‘بشاشة الخوف’ ولم تسمّه كذا سوى لكي تتمكن من التعايش معه ولكي تعتاد عليه وربما تجتازه وتتعافى منه. لكنها لم تتعافَ وظل يخيم فوق رأسها سنوات عديدة، وهي في انتظار القرار والحكم بشأن وضعها كمهاجرة وكمواطنة فقدت اوراقها ولم تصلها هذه الأوراق الثبوتية من العراق، وحتى لو وصلت فما فائدتها وفيها مغالطات في تواريخ الولادة وما شابه. فالتاريخ احياناً خطأ وأحياناً اخرى غائب. الكاتبة وليدة هذا الخوف العام والمطلق، وليدة البلدان التي لم تؤسس لنفسها بعد لأن تكون بلداناً، وليدة مدينة ليس فيها من المدينة المدنية سوى الإسم. عالية ممدوح ذاقت الخوف الكبير والحقيقي وهي ترى هويتها تمّحي او تضيع بين إهمال وفساد بوروقراطية بلدها الأم، وصرامة وقسوة بوروقراطية البلد المضيف. إضافةً الى أن الحظ لم يحالفها كثيراً وملف الهجرة او الأوراق الثبوتية ضاع مرات ومرات بين الممرات والجوارير والبريد والله اعلم. من كل ذلك جنت عالية ممدوح معنى الخوف الرهيب ومعنى العبث ومعنى المثابرة ايضاً. ولا تنسى في هذا المجال ان تذكر بمحبة وموضوعية كل اصدقائها الذين ساعدوها ووقفوا الى جانبها في محنة الملفات والهويات الضائعة، ومواجهة الضياع هذا عندما اصطدمت بمطبات اللغة الفرنسية التي كثيراً ما اخافتها كذلك.
‎اقول هويات ضائعة عنوة لأن الهوية ما إن تدخل متاهة الملفات البوروقراطية تتحول الى ضياع شبيه بالضياع الذي يعاني منه حتى اولئك الذين لا يشكون من ملفات ضائعة في جوارير الهجرة، أعني شبيهة بهويات اولئك الذين يشكون من ازدواجية طبيعية في الإنتماء او اكثر من ازدواجية. وفي النهاية، أليست المشكلة ورغم تباين فروقاتها، تصبّ كلها في خانة المأزق والأزمة النفسيين والخوف الكبير؟! ها هي عالية ممدوح تعاني من أمْرين معاً : من ضياع الوثائق التي تثبت للمؤسسات الرسمية مَن هي ومَن تكون وكأنها بصريح العبارة تعاني من التمزق في الإنتماء الذي يعرفه كل مهاجر او غير مهاجر ممن يضطرون على اكثر من انتماء واكثر من لغة واكثر من هوية وثقافة الخ. أليس العذاب الذي ذاقته عالية وربما لا تزال غارقة فيه هو أساس المسألة الشائكة في كل موضوع يتعلق بالهوية المفقودة او الحائرة كما هي الحال مع الكاتبة. تقول في إحدى محطات الرواية ‘كنت ابدو وأنا اترك هذا المعهد لغيره مثل مخطوطة في طور الكتابة. فكل من يشاهدني او يعلمني او يشتبه في امري او في هويتي، او في سحنتي…’ (ص.69) انها مشكلة ‘الفرق’ البارز! هذا الفرق الذي يجعل من كل مهاجر يواجه هوية ثالثة كما احب ان اسميها، حيث المرء في الغربة ينتبه الى ما هو ومن هو، تلك المسائل التي لم يكن يفكر فيها في بلده الأم.
‎عالية تتعذب في هذه الرواية – السيرة من حيرة في الهوية، في مواجهتها ومساءلتها، في مواجهة الذات التي كانت تلقائية في بلد الأم وأصبحت شائكة في بلد الهجرة. وككل مَن يتمزق بسبب هذه المعضلة، فهي ترى نفسها حائرة بين الإنتماءات المتوفرة لها، بل أيضاً غير المتوفرة لها اطلاقاً. لا يمكنها ان تجزم أمرها وهي متجاذبة بين بلدها الأم الذي تركته ولا يقدم لها شيئاً وبلد قصدته ولا يقدم لها سوى صرامة التعقيد البوروقراطي واللغوي في شكل خاص وهنا تكمن المعضلة كلها.
‎فما يزيدها هشاشة في كيانها ووجودها، تلك اللغة الغريبة، اللغة الأجنبية، أي الفرنسية، التي تحيط بها وممدوح تعمل كل جهدها من أجل ان تتعلمها، وكم هي مؤثرة في وصفها تلك اللغة الغريبة عنها التي تحاول فهمها ومعرفة تفاصيل كيانها وتتخبط في متاهاتها. كم وصفها دقيق لهذا العذاب مع اللغة التي تواجهها لأول مرة في حياتها وتجدها صعبة وقاسية. هنا ايضا ً عالية ممدوح تدخل الى صلب المأزق، وتجعل القارىء يهلك معها لفرط العذاب. انها تضع الشوك على درب القارىء، ذلك الذي اختبرته لحظة بلحظة في عراكها للحصول على أوراق ثبوتية ضائعة ولا تصل، وفي عراكها مع لغة لا تشبه العربية اطلاقاً. كأن ممدوح في هذا التخبط مع مشاكلها الإجتماعية، هي أولاً تتخبط مع مشاكل محض وجودية. يكفي ان تدخل الى تفاصيل صرف الأفعال الفرنسية وعدم تمكنها من ضبطها، لكي نفهم انها في الكتابة عن كل هذه الدقائق لم تنوِ سوى ان ترينا كيف كان عليها ان تواجه، عارية من اي سلاح، عزلاء، أن تواجه بمفردها وبضعفها عملاق اللغة وغموضها، الى جانب عملاق تعقيد ورقة تافهة ولكن مهمة اسمها الهوية او جواز السفر او ما شابه، تواجه كل هذا كإنسانة متروكة لقدرها. قالت في الصفحة 79 ‘ فتعلّم الفرنسية يستنزفني تماماً، كما هو بلدي. يسحب الدم من عروقي، وما كنت امتلك الأمان اللغوي وهذا ما صعب عليّ الأمور كأجنبية’.
‎ولم تكن تمرّ عالية ممدوح فقط في ازمة البحث عن أوراقها الثبوتية ولا في أزمة تعلم اللغة الغريبة عنها، انما كانت أيضا ً وبشكل فظيع ورهيب تمر بمشكلة صحية عويصة سببها سيكولوجي ولا شك، سببها كل تلك المسائل المذكورة اعلاه، وهو مرض في الجلد والذي سبب لها الحك المتواصل خلال سنوات عدة. كل واحد فينا يمكنه ان يتعذب لأسباب جدا ً صعبة ومعقدة، لكن كم واحد فينا يمكنه أن يتحمل فقط خمس دقائق متواصلة من حك لا علاج له ؟! كيف استطاعت كاتبتنا ان تتحمل كل هذا النهش والنيران الطالعة من الداخل الى سطح الجلد. وهي تحك وتقاوم بصلابة وبألم كبير. وأي كلام من قبل الصديقات والأصدقاء، مهما أحاطوها بمحبتهم، يمكنه ان يواسي انساناً في عذاب من هذا النوع، اضافة الى بقية العذابات التي عرفتها ؟!
‎ولم تكفها كل هذه المصائب حتى رأت نفسها في أحد الأيام وفجأة أمام انقلاب في المعاملة من قبل جارتها او كل جيرانها في البناية حيث تسكن ! كان عليها هنا أيضا ً ان تقاوم الكره والعنصرية وان تقاوم برودتهم ولؤمهم وان تحاول ان تفهم ما الذي طرأ بينها وبينهم. وكان عليها ان تقوم هي بالخطوة الأولى وان ترطب الأجواء وكأن على الأجنبي دائما ً ان يكون ضحية المزاجات المحلية المنغلقة والعنصرية.
‎لكن في كل هذا ألم تكن الكتابة هي الشفيعة والشافية الوحيدة ؟ ألم تكن الكتابة المَخرج الوحيد والأمين في كل مصائبها ؟ هي التي حوّلت مآسيها اليومية من إجتماعية وصحية الى مادة كتابية مذهلة. هذا الروائية الجذابة في شخصها كما في كتابتها ها هي ترى من خلال مشاكلها ومصائبها، ترى المفردات لتحولها جملاً وأسطراً وروايةً في النهاية.
‎وليس فقط الحاضر هو الذي يحفزها على الكتابة، انما الماضي ايضاً الذي يتسلل الى حاضرها بشكل خاص وجمالي. وماضيها هذا هو مزيج من النوستالجيا الكئيبة دون ان تكون الأخيرة وجدانية سطحية أو عاطفية بلا أعماق. انه الماضي الواعي الذي يطلع من ذاكرة قاسية ولكن متجذرة في عاطفة صامتة وقوية كنبض يجدد كلماتها ولا يتركها للأحاسيس الركيكة. الأب يحضر والأم والأخ وبصورة خاصة العمة. انها ذاكرة الفتاة التي منها انطلقت ونضجت المرأة التي تكونها اليوم عالية ممدوح. لا تركُن عالية في حنين بليد يعود الى ماض باهت. انها تحرك الماضي وتستعمله مادة للوعي فحسب. تحرك الماضي ضمن تفاصيل خشنة وعميقة، ضمن ألوان وتهكمات، ضمن حب ونزق وتمرد. هكذا تتذكر عالية بعاطفة جياشة ومنضبطة في آن، كل أفراد عائلتها الذين عاشت معهم في ما مضى. ولكنها تخصص لعمتها العاطفة الأكبر. انها المرأة التي أثرت كثيراً في حياة تلك الفتاة التي أصبحت في ما بعد عالية الروائية والمرأة الحرة التي دفعت غالياً ثمن حريتها.
‎من هنا الكتابة المتميزة دائماً والثائرة على القواعد. من هنا جاذبية ممدوح في سرد يتشابك ويتداخل احياناً، وأحياناً أخرى ينمو ببساطة الحلم الناضج لكن لكي يأخذنا الى حياة لم تكن يوماً سهلة.
‎وفي كل هذا المسار، يجب الإشارة الى نقطة مهمة وهي ان عالية لا تتحرك في كتابتها هذه كما في كيانها وتفكيرها ضمن اتجاه واحد، اي ضمن الوجهة المأسوية فحسب. فهي أقوى من ذلك، ولهذا السبب نراها تلجأ احياناً كثيرة الى التهكم الأقرب الى المزاج الفكاهي والساخر. انها تسخر من ذاتها اكثر من مرة في هذا الكتاب. وهذا تعبيرٌ عن ذروة ما يمكن أن يبلغه الإنسان الذكي والثائر. تسخر من ذاتها لأنها واثقة من ذاتها وهنا تكمن مرارتها الكبرى التي تتسرب الينا شيئاً فشيئا ً لكن بوضوح كبير. ‘الأجنبية’ رواية لا يمكننا تجنبها لفرط الألم الذي فيها.

بقلم: صباح زوين
جريدة القدس العربي