الفلسطيني باسم خندقجي يستعيد التاريخ روائيا داخل سجنه الاسرائيلي

الفلسطيني باسم خندقجي يستعيد التاريخ روائيا داخل سجنه الاسرائيلي

عن موقع  INDEPENDENT ARABIA
https://bit.ly/2lxCBKV
 

صديق للكاتب الفلسطيني الاسير باسم خندقجي يرفع روايته (دار الاداب)

 حين يتّخذ الروائي من شخصيّة تاريخية مادّة لروايته يكون عليه أن يواجه خيارات ثلاثة؛ الأوّل، أن يُحوّل الشخصيّة التاريخية إلى شخصيّة روائية ضارباً عُرْض الحائط بتاريخيّتها، فَيُحسن إلى الرواية ويُسيء إلى التاريخ. الثاني، أن يتقيّد بتاريخيّتها على حساب الفنّ الروائي، فَيُحسن إلى التاريخ ويُسيء إلى الرواية. والثالث، أن يُوازن بين هذين الحقلين المعرفيّين، فَيُحافظ على تاريخية الشخصيّة في خطوطها العريضة، ويتصرّف روائيّاً في التفاصيل. وبذلك، تربح الرواية ولا يخسر التاريخ.

 ترد هذه الأفكار ذهن الناقد  وهو يقرأ رواية "خسوف بدر الدين" للروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي (دار الآداب)، ووجدتني أتساءل: أيّاً من الخيارات الثلاثة اعتمد في روايته؟ على أنه قبل التوغّل في أدغال الرواية، والإجابة عن السؤال المطروح، لا بدّ من الإشارة إلى أن الكاتب معتقلٌ في سجون الاحتلال الاسرائيلي منذ العام 2004،  ومحكومٌ بثلاثة مؤبّدات، والرواية هي الثالثة المنشورة له بعد "مسك الكفاية" و"نرجس العزلة".

 في العنوان، نشير إلى وجود تَصادٍ بين المصطلح الجغرافي والاستعمال الروائي؛ فخسوف القمر، في الجغرافيا، هو "ظاهرة فلكية تحدث عندما يحجب ظلُّ الأرض ضوء الشمس المنعكس من القمر في الأوضاع العادية"، ما يؤدّي إلى دخوله في الظلمة. وخسوف بدر الدين، في الرواية، يتحقّق بإعدام الشخصيّة الروائية، ما يؤدّي إلى دخولها في الموت. وفي الحالتين، ثمّة غيابٌ للنور، نور الشمس في الحالة الأولى، ونور الحياة في الحالة الثانية.

 في المتن، يُشكّل الصوفي بدر الدين محمود شخصيّة محوريّة في الرواية، يمتدّ السلك الذي ينتظمها من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة فيها، وإن اختفى في عدد من الصفحات. فالمتن هو رواية هذه الشخصيّة التاريخية أو تاريخها الروائي. وتدور الأحداث،  بين أواخر القرن الرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر، على المستوى الزماني. وتتحرّك بين سيماونة والقاهرة وتبريز وبروسّة وأدرنة وأزنيك وسيماونة، على المستوى المكاني.

شخصية إشكالية

في كلٍّ من هذه الأمكنة، يتبلور بعدٌ أو أكثر من أبعاد هذه الشخصية الاشكالية المركّبة؛ فبدر الدين، في سيماونة من أعماق الأناضول، هو المولود لأبٍ تركي هو قاضي المدينة وأمٍّ سبيّة إغريقية. وهو، في القاهرة، تلميذٌ وأستاذٌ وعاشقٌ ومعلّم ولي العهد ومجادل العلماء. وهو، في تبريز، طبيب وصاحب زاوية وصديق الحاكم ومنقذ الأمراء الأتراك من أسر تيمورلنك. وهو، في بروسّة، ضيف الذين أنقذهم من الأسر. وهو، في أدرنة، قاضي العسكر والسياسي. وهو، في أزنيك، الموضوع في الإقامة الجبرية. وهو، في سيماونة، صاحب المذهب والقائد المتمرّد. وهو، في أدرنة، مرّة أخرى، البدر المخسوف المعلّق على منصّة الإعدام. وفي هذه الأمكنة جميعها هو المتصوف العارف، المصغي لصوته الهاتف، المتّبع نوره الداخلي، المؤمن بالمساواة بين الناس، الناقم على السلطة، الساعي إلى التغيير بقلبه ولسانه ويده.

 في الحكاية، يأتي بدر الدين إلى القاهرة المملوكية طلباً للعلم، وتنفيذاً لوصية والده الذي يريد إبعاده عن الحروب وميادينها، وهناك يبلي البلاء الحسن طالباً وأستاذاً، ويحظى بثقة أستاذه أكمل الدين الذي ينتدبه لتعليم الأمير فرج، ابن السلطان برقوق، فَيُعاني معه الأمّرين لا سيّما في اللغة العربية، وهو المولود لأبٍ شركسي وأمٍّ جارية إغريقية. ويتعرّض لاختبارٍ خطير حين تراوده أمّ الصبي الأمير عن نفسها، وينجو منها بفضل صوتٍ داخلي يهيب به عدم الوقوع في الخطيئة. وهناك يرتبط بعلاقة صداقة مع مواطنَيْه طورة كمال القادم من قونية والمتحوّل عن اليهودية إلى الإسلام، ومصطفى نور الدين القادم من إزمير المتحوّل عن طلب العلم إلى التدريب العسكري. "كانوا ثلاثة أصدقاء: عالم، وصديق، ومحارب" (ص 35)، وتستمر صداقتهم حتى النهاية. وهناك، ينخرط بدر في علاقة عشقٍ مع الجارية مكنونة التي سحره صوتها حين سمعها تغنّي في مجلس السلطان، وسحرها النور المنبعث من جبينه ووجهه. وإذ يُصدّران عن منظورَيْن مختلفَيْن للحب، طهراني وشهواني، يفترقان. غير أنّ إقدام السلطان على خنق مكنونة محمّلاً إياها مسؤولية التسبّب في خنق أقرب الأمراء إليه يُشكّل نقطة تحوّل في مسار الشخصية؛ فينزلق بدر، المثالي في الصداقة والحب ومعاملة النفس والنهود إلى القيم، إلى درك الواقعية وقاعها، وينغمس في ممارسة الخطيئة حتى إذا ما لمح الطيف النوراني، في أحد أزقّة شمالي القاهرة، يثوب إلى رشده مجدّدًا، يصعد إلى قمّة جبل المقطّم بعد صلاة العشاء، ويستغرق في رقصة صوفية عارية يتحلّل بها من خطاياه السابقة.

 وإذ ينتقل بدر إلى تبريز، ينال الحظوة لدى أميرها بعد أن نجح في شفاء ابنه الوحيد المشارف الموت، فَيُخصّص له زاوية، ويكون له مريدون وأتباع. وحين يقوم تيمورلنك بأسر السلطان التركي بايازيد وأمرائه بعد إنزال الهزيمة به، يستخدم بدر حظوته لدى الأمير لإطلاق سراحهم، حتى إذا ما عاد إلى الأناضول يحسن هؤلاء استقباله، ويقلّده الأمير محمد بن بايازيد مهمّة قاضي العسكر. غير أنّ بدر الذي طالما أنِفَ السلطة والتسلّط، يجد نفسه منساقًا إلى الغرق في وحولها، في محاولة منه لتطبيق أفكاره المثالية، فيصطدم بالواقع السلطوي المتردّي، وتكون نهايته مع صديقَيْه المخلصَيْن طوره ومصطفى والآلاف الذين آمنوا بدعوته. وبذلك، تنطوي الحكاية على رسالة سلبية إلى كلّ الحالمين المثاليين بالعدل والحرية. ولعلّ ما نشهده، في هذه اللحظة التاريخية، من إجهاض الثورات وإفراغها من مضمونها والتنكيل بالقائمين بها، يشي بأنّ مجريات الأحداث في القرن الحادي والعشرين لم تتغيّر كثيرًا عنها في القرن الخامس عشر.

الراوي العليم  

في الخطاب، يُسند خندقجي مهمّة الروي إلى راوٍ عليم، يتماهى مع وظيفة المؤرّخ، ويناسب الرواية التاريخية. غير أنّ الروي لا يقتصر على ضمير الغائب بل يجري في بعض الوحدات السردية بضمير المخاطب، فيتماهى الراوي مع الشخصية، ويتحوّل النص، في هذه الحالة، إلى نوع من المونولوغ والمحاكمة الداخلية. والمادّة المرويّة تتوزّع على ثلاثة أقسام وإحدى عشرة وحدة سردية طويلة بعدد خمس وحدات للقسم الأوّل، وثلاث وحدات لكلٍّ من القسمين الثاني والثالث. والعلاقة بينها خطّية، تمضي فيها الأحداث ، وقد تعود إلى الوراء لبضع صفحات، كما نرى في الوحدتين الرابعة والتاسعة، على سبيل المثل، وهي عودة تختلف عن تقنية الاسترجاع التي يقوم بها الراوي المشارك عادةً، بينما  هي ليست من وظائف الراوي العليم باعتباره ليس شخصية روائية. وللسبب نفسه، لا نقع في الرواية على التقنيات السردية التي تستخدمها الرواية الحديثة ممّا لا يتناسب مع طبيعة الرواية التاريخية.

 يصوغ خندقجي روايته بلغة روائية رشيقة لا تنأى عن الانزلاق إلى درك الإنشاء في مواضع متفرّقة، ويغني نصّه بمقتبسات شعرية ونثرية من المتصوّفة في العصور المختلفة الأمر الذي ينسجم مع الشخصية المحورية في الرواية، ويعكس ثقافة الكاتب الصوفية المضافة إلى تلك التاريخية. وفي هذا السياق، كثيراً ما يُحدّد تاريخ حصول بعض الوقائع بالاسم والشهر والسنة، فيجرّد الواقعة من روائيّتها، ويمنحها بعدًا تاريخيًّا. وهذا، برأيي، لا يصبّ في مصلحة الرواية. 

 في النهاية، يُذيِّل الكاتب روايته بتعقيب تاريخي يرد فيه ذكر بدر الدين، يستقيه من مصدرَيْن تاريخيَّيْن اثنَيْن، ونستشف منه أن ثمّة تقاطعاً بين الشخصيتين التاريخية والروائية في الخطوط العريضة. وبذلك، نستنتج أن خندقجي يعتمد الخيار الثالث من الخيارات الثلاثة المشار إليها أعلاه، في مقاربة الرواية التاريخية، فَيُوازن بين التاريخ والرواية، يتّخذ من الأوّل الخطوط العريضة، ويترك للثانية التفاصيل. وبذلك، يربح الرواية ولا يخسر التاريخ.