كاتبة من مدن الحبر (علوية صبح)

كاتبة من مدن الحبر (علوية صبح)


عن موقع القدس بقلم بروين حبيب
https://bit.ly/31UrsnJ


لا توجد رواية اتفق في حبها القراء على مستوياتهم مثل رواية «مريم الحكايا» لعلوية صبح، رواية وجد فيها المثقف نفسه، تماما كما وجد القارئ العادي البسيط نفسه فيها أيضا، مع أنّها رواية لم تكن متوقّعة، فقد جاءت بعد صمت دام عشرين سنة، لكنه صمت استثمرته علوية في الكتابة، إذ ظلّت منكبة على أوراقها، تخيط نسيج حكايتها مثل بينيلوب، فيما الحرب الهادرة كانت تصطاد الأرواح خبط عشواء في الخارج.
تعايشت مع الحرب مثل غيرها، لكنّ بعين دقيقة التقطت تفصيلات لا يمكن أن تلفت نظر سوى مبدعة في مستواها، شرّحت ما حدث على طريقتها، وقشّرت الأقنعة الاجتماعية، التي أتقن الجميع ارتداءها حين استلزم الوضع ذلك. دخلت المغارات الممنوعة للطوائف، وأخرجت الأفراد منها عراة، وكتبت بضمير الأنا الطافحة بإنسانية مدهشة ما يجب كتابته. تساوى الأمهات في أوجاعهن في نصها، وقد تقمصتهن بشكل عجيب، رغم أنها لم تختبر الأمومة، تقمّصت الأمراض، والإعاقات، والعجز، والسخط النابع من الغضب المتوارث من سيطرة الجماعة على عقل مستنير.. كانت مبدعة بلغة قلّما وجدناها في الروايات، مبتعدة تماما عن حيلة الشعر، وفخاخ الجنس، والقضايا السياسية التي تمتلئ بها الروايات العربية، لقد سردت حكاية طويلة لأنثى تحمل اسم مريم، فيها من الرموز ما يكفي لتختصر الوقائع كلها، محن النساء الشرقيات، تضحياتهن، يُتمهن وترمُّلهن، وهي بذلك لم تكتب رواية تخصُّ النساء، بل رواية مركزها الرّحم الذي تختبئ فيه بذرة الحياة، وتنبثق منها كلما عاث الموت فسادا في بقعة ما.
«مريم الحكايا» أشاد بها النقاد، فقد اعتبرها صنع الله إبراهيم، الرواية الأجرأ والأنضج أدبيا خلال نصف القرن الأخير، ورأى الروائي محمود الورداني أن كاتبتها قدمت في مريم واحدة من أكثر الشخصيات الروائية قدرة على البقاء في الرواية العربية. وقال فيها الشاعر اللبناني عقل العويط :» سنقرأ في هذه الرواية الحياة، بل سنراها تعبر أمامنا كفيلم سينمائي أو تسجيلي، سينما كاملة على غرار الأفلام التي نحضرها ونخرج منها لنقول لأنفسنا هل حصل حقا كل هذا الذي رأيناه؟» وأخيرا هتفت الناقدة يمنى العيد: «لم أكن أتوقع أن تعود إلينا المرأة الكاتبة بعمل روائي على هذا المستوى من الكفاءة والرقي الفنيين».

كانت تلك مقولات غير مقولتي الخاصة بشأن علوية، فبالنسبة لي لم تكن «ضيفة» عادية على برنامجي، فقد كانت من القلة القليلة التي دخلت عالمي من باب الصداقة، فعلت ذلك سريعا، لأنها لم تضع أي حواجز تفصلنا، قدّمت نفسها، متناسية تماما أنها أمام جمهور عربي يضع شروطا لظهور المرأة على الشاشات، لقد اكتشفت أمامي امرأة حرة، واعية، متصالحة مع نفسها، متصالحة مع كل شيء، حتى مع خيباتها، امرأة بوجدان مثقف حر، هكذا أختصرها، وهكذا أراها ليس فقط في «مريم الحكايا» بل في «اسمه الغرام» أيضا، وقد كتبت بعذوبة تابوهات لم تكسرها المرأة جميعها، ولم يكسرها الرجل جميعها، ذهبت بعيدا في وصفها الكاريكاتيري للجنس، والعجز الجنسي لدى الرجل، وبوصفها الدراماتيكي لقضايا شائكة مثل الإجهاض، روت حكايات النساء، وحكايات الرّجال، عجز القارئ عن تصنيف نصّها، أهو نسويٌّ أم ثنائي الجنس؟ تلك الحيرة وضعتها في مكانة فريدة، لا تزال منذ سنوات تتربع عليها وحدها.. استحقت علوية صبح أكثر من جائزة، ولكنّها لأسباب لا حيلة لنا في معرفتها أُقصيت أو أبعدت، رغم تردد اسمها دائما إعلاميا، ولعلّها الكاتبة الوحيدة التي لم يقتلها الغياب، ولا الصم.. و المراهنون على قلمها يقولون دوما «علوية ستعود بنص قوي» وهذا ما أقوله أيضا.

لعلّها تعيش السيناريو نفسه، لعلّ بطلة جديدة تبحث عن علوية لتكتب عنها، وهي تبادلها البوح والاعترافات في لقاءات سرية بين أماكن عدّة في بيروت، تسكن ذاكرتها المثقلة بخيبات الحرب وما بعد الحرب، إذ يبدو أن مخيلة صبح مثل الإسفنجة القوية تمص كل ما حولها من سوائل لصناعة حبرها الخاص للكتابة.
تسيل الكلمات سيلانا لتملأ أفئدتنا بدفء غير معهود، هكذا قرأت «مريم الحكايا»، و«اسمه الغرام»، و«دنيا»، وأصغيت في لقاءات خاصة لعلوية صبح وهي تروي عن شخصياتها أمورا جعلتني أدرك أنها كاتبة لا تكتفي بالتخيّل، بل بالإصغاء لشخصياتها وهي تتشكل في داخلها، بعد أن تقوم بتركيبها مثل «البازل» من خلال احتكاكها بالناس.. لم تفرض صبح لغتها على شخصياتها، بل تركتهم على سجيتهم، يفعلون ما يفعلونه في الحياة بدون تملّق للكاتبة، وما أزال أرى أغلبهم يتحركون أمامي كلما تذكرت شيئا يخص أدبها لأستشهد به، لا أدري بالضبط ما السر في التصاق وثبات مشاهد بأكملها في ذاكرتي من رواياتها، ربما لأنني عثرت على جوانب خفية مني فيها، ربما وجدت من أبحث عنهم في البعض الآخر، ربما أتقنت الحفر في الأعماق، بكتابتها التي وُصفت كثيرا «بالمجهرية»، أو ربما لأنني أعود لقراءة أعمالها بين حين وآخر، لقد قرأتها جميعها عدة مرات، بحثا عن متعة خاصة ألتمسها، وأنا أستمتع بقراءة السيولة العجيبة لسردها، عادة ما أفعل ذلك بلمس الكلمات بأصابعي ـ وهي عادتي خلال القراءة ـ وقد تحسست المقاطع الأكثر جمالا لديها كلما وصفت الأمومة، ولوعة الخاسر في الحب، وندوب الحرب التي خدشت الوجه الجميل للبنان، وكلما كسرت الحزن بخفة دم مفاجئة، فلا بكائيات وعويل في أدبها، لا نحيب وصراخ، هو فقط مسار الحياة الهادئ، الشبيه بشخصيتها في الحقيقة،
نعم علوية صبح هكذا، امرأة هادئة، زادتها الكتابة وقارا، وهي وإن كانت مقلّة في أعمالها، إلاّ أن كل عمل لها له ثقله، ماذا سأقول عنها أيضا وقد فات الجميع ليقوله؟ علوية تعرف جيدا من أين أتت، ولم تخش من الصدمة وهي تكتب الجانب الذاتي منها، بتلك الخلفية المتواضعة التي تنتمي إليها، مشرّحة واقع طائفة تختلف عن غيرها في طقوس الصلاة وعبادات أخرى، وتلتقي معها في قهر النّساء، وتقليم أجنحة الإنسان المفكّر المبدع الطامح لحياة متزنة، بنعومة فائقة، قالت كل ما يجب قوله، لا شيء بقي عالقا في الحلق، لقد جمعت أطراف حكايات كاملة ووضعتها في مؤلفاتها، وهذا ما يجعلها منذ سنوات تستحق التتويج، أما وقد أُجّل ذلك الأمر في عدة محافل مهمة للرواية فذلك أمر آخر، قد يتطلب وقفة أخرى غير هذه للبحث فيه، لكنني أعتقد جازمة أن علوية صبح هي أكثر كاتبة احتفى بها النقد، وأكثر من حُرِمت من الجوائز، مع أنها في كل مسارها الأدبي نالت من التكريم ما يجعلها فخورة دائما بمنجزها الإبداعي.
لست أبالغ إن قلت إن الجوائز تتأثر بمن ينالها، فبعضهم يجعل الجائزة تكبر وتزداد بريقا، والبعض الآخر يجعلها تصغر وتأفل، أما علوية فقد لامست ببريق أدبها اليوم جائزة من أهم الجوائز العربية، جائزة العويس الثقافية، وهي في الوقت نفسه مكافأة حقيقية لكل كاتب جاد سحبه الأدب إلى أبعد نقطة عن الضوء، وأعمق نقطة في قلب الصمت، لفترة طويلة جدا.. حتى حدثت المعجزة على غير توقع.