“هي خيانة لكنّها جميلة” تقول الكاتبة والناقدة اللبنانية يمنى العيد في وصف كتابها ـ السيرة “أرق الروح”، الصادر عن دار الآداب، وفيه تحكي أكثر من حكاية عن تجربتها في الحياة منطلقة من السؤال: “من أنا؟ هل أنا حكمت أم أنا يمنى؟”. وكانت في بداياتها “الأدبية” موظّفة في وزارة التربية، والأخيرة تحظُر على الموظفين في الدولة اللبنانية نشر ما يكتبون من دون إذن مسبق، فاختارت اسماً مستعاراً غير الذي ولدت فيه، وهو الاسم الذي غدا علماً في دنيا الأدب والفكر والنقد، وإن بقيت “حكمت”، تلك التي لا يعرفها الناس سجينة الماضي الذي به شغب ولعب ونضال وحنين إلى صيدا المدينة التي ولدت وعاشت فيها قبل الانتقال إلى بيروت.
أرق يمنى يطوي بين جناحيه إشكالية الاسم المستعار، والاسم على الهوية الذي اختزن في حروفه حكاية لها زمانها وتاريخها وحضارتها. ظلّ الصراع الداخلي بين العودة إلى الأصل أم العيش في اسم لا تحمله راكدا تحت جلدها يوقظ ذاكرتها التي لم يطوها الزمن كما اعتقدت، فإذا بالسؤال يكبر: “أنا يمنى أقول. فهل طوى الزمن حكمت أم أنّ يمنى وحكمت لا تزالان تتصارعان في داخلي؟. وهل حين قبلت بـ”يمنى” محوت حكمت من داخلي. هربت من زمن حكمت وأسدلت الستائر فوق المرايا التي تعكس صورتها؟”.
في حين زمن حكمت ليس ملكها وحدها، لأنّها بسردها الماضي جرّت معها تاريخ مدينة قلّما يجيء الكتّاب على ذكرها. فتحت صندوق الحكايات لتنبش منه عادات وتقاليد وطريقة عيش كانت سائدة. تبدأ من معضلة أن تولد صبياً أم بنتاً. وكانت أمّها قد فقدت صبيّاً جميلاً اسمه “عبدالحليم”، فواساها الزوج بأن أعطى اسماً مذكّراً للمولود الجديد. ومنذ أعطيت اسم “حكمت”، احتلّتها صورة أخيها حاملة وهم الذكورة وتلك العلاقة الندّية مع الرجل. وهناك افتراض آخر تفصح عنه، أن يكون اسمها ابن البيئة في ذلك الزمن: “ولد أبي في زمن الحكم العثماني سنة 1890، وتعلّم في صغره اللغة التركية”، لكنّه عاد مهزوما ليعيش في سلطة الانتداب، تعلّق: “لعل أبي كان يوم ولادتي مازال، رغم مضيّ الزمن، يحنّ إلى أصداء تلك اللغة، التركية، ويربط بينها وبين دين أصحابها، فسمّاني، تعبيراً عن حنينه، حكمت”.
أن تولد بنت مطلع القرن التاسع عشر، وبشرتها سمراء، يعني ذلك على حد توصيفها: أنها ستحذف من لغة الوصف والمديح وستكون علاقتها مربكة مع ذاتها، وهو الأمر الذي حصل معها، إذ بقي السؤال ملجوماً: “لماذا لم يسمّني أهلي بغير هذا الاسم؟”، ومثله حالها التي تاهت بين الاسم والمسمّى. كتبت توضح: “حمّلت اسمي مشاعري بعد أن حمّلني دلالاته. تماهينا، فماهيت بين الناس وأسمائهم، بل وأسقطت على الألفاظ هوامات أحاسيسي بها. ورحت أتمنى اسما بلا هذه الكاف التي تعلق في حلقي، بلا هذه التاء الساكنة التي كانت تبدو لي مثل علامة وقف لجسدي الأنثوي”. في المقابل فإنها تسترجع ما أخبرتها به خالتها منيفة مخففة من وطأة كونها “بنت”. تحكي كيف أنّها ولدت مقنّعة بـ”برقع”، وكيف أنّ والدها على الرغم من عدم إيمانه بما يقال عن ذلك القناع الذي ولدت فيه، وجد نفسه منساقا لكلام النسوة بالذهاب إلى الشيخ لسؤاله عما سيفعل به. وخلافا لما كان يظن بخصوص تلك الخرافات، وجد أن الشيخ يوافق النسوة الرأي بقوله: “هذا البرقع علامة خير. وأوصاه بأن تجففه النسوة، في الظل، سبعة أيّام، ليعود به، من ثمّ إليه. سيصنع له منه حجابا، أو حرزاً يرد العين الحاسدة، ويدفع بعيداً البلاء والأعداء، وتضعف أمامه سلطة الحكّام”.
وفي كتاب البوح هذا، تستذكر حادثة محورها الاسم بوجهيه الأنثوي والذكوري: “يوم نشرت أوّل مقال لي في مجلّة “الطريق” باسم حكمت، اسمي، جاء أحد الأصدقاء يخبرني بأنّ الكاتب والمفكّر المصري ميشال كامل أعجب بالمقال وسأل عن الشاب حكمت كاتب هذا المقال. فقيل له حكمت هي امرأة. أنثى. كان الصديق يبتسم وهو يحكي عن هذا الالتباس الذي أغاظني، فقد وجد فيه مديحا لي، في حين وجدت فيه تقييما مجيّرا لي. إنّه مديح لذكر، أو لكتابة معيارها القيمي منسوب لذكر”.
في الأحداث العسكرية التي خبرتها مدينة صيدا تتذكر كيف دكّ الأسطول الإنجليزي من 8 إلى 16 يونيو من العام 1914 مدينة صيدا. وكيف كان المال يحكي في حينها، ومن يملكه ينجو من الخدمة في الجيش العثماني.
حكايتها في ارتقاء السلّم الأدبي فيها الكثير من البيئة التي كانت محكومة بالدين منتصف القرن المنصرم. تحكي كيف أنّ الشعر الحديث استهواها لسلاسته ومعاصرته للحاضر، إلاّ أنّ الشعر العربي القديم حفر قيمه وجمالياته في وجدانها معيداً الاعتبار إلى جذورها وانتمائها.
تعترف: “كنت ككثيرين مثلي، نعاني عقدة النقص والتخلّف، ونرى في الغرب نموذجاً نلهث وراءه”، مستعرضة كيف كان الشعر العربي الحديث خارج برامج الدراسة الجامعية، بالإضافة إلى كونه مرفوضاً ومحارباً من قبل كثيرين لصالح الشعر القديم الكلاسيكي والرومنطيقي الملتزم بالتفعيلة. تعدد أسماء الأدباء الذين كان لهم الفضل في تشكيل الذائقة الأدبية في ذلك الحين: إلياس أبو شبكة، جبران خليل جبران، أمين الريحاني ومن سبقهم من أدباء العصور السالفة أمثال بشار بن برد وأبو نوّاس. وفي قراءاتها للشعر الإباحي تملّكها السؤال: “ما هو الأدب وما علاقته بالأخلاق؟ بالواقع؟ وبحرية العيش والتفكير والتعبير؟”. ومن تلك الأسئلة انطلقت نحو قراءات فكرية ونقاشات مروراً بتعرفها إلى الواقعية في الأدب، وإلى أعمال الروائيين الروس أمثال جوركي وتولستوي ومن ثمّ كبرت دائرة النتاج الأدبي الذي انكشف أمامها مخلفا حيرة السؤال: “ماذا أختار؟”. تقيّم تلك المرحلة: “كأنّ ثقافتنا تتبلور وتنضج بعلاقة مع ما نشعر ونرى ونعيش، أي مع واقعنا وزمننا، وفي الآن نفسه مع أمانينا وأحلامنا المحمولة من زمن طفولتنا”.
ومن تلك الحقبة تنتقل إلى الستينيات والسبعينيات لترسم ملامح وطن يغلي على نار الوعي الذي تشكّل وطنيا ولاطائفيا. وفي حينها أسهمت المدارس الرسمية الوطنية في كسر الحدود بين الطوائف، وفي تنشئة المواطن اللبناني أولا وليس المسلم أو المسيحي.
“ما هي القومية؟. وما هي العروبة؟”. تسأل الناقدة بعد خمسين عاما مستذكرة الاعتصامات التي كانت تشارك فيها تحت عنوان: “كرامة العيش”.
تعلّق: “أعيش اليوم زمنا مثيلاً لذاك الزمن، أو تعيشه أجيال الزمن الحاضر وأشهد على اعتصاماتها. كأنّ زمننا العربي، بما هو زمن لحياة كريمة، صفر، أو زمن لم يبدأ، زمن يتماثل بذاته، ببؤسه، ونكوصه، بعجزه عن الدخول في التاريخ، تاريخ النهوض لتحقيق العدالة والحرية والكرامة...”. وعلى الرغم من ذلك العجز، وهو حال والدها الذي دخل في حالة نفسية بعد وفاة والدتها واندلاع الحرب اللبنانية، فإنها تختم خيانة البوح بالدعوة إلى الغناء وفك الصمت من أجل التجرّؤ على صنع مفتاح لصندوق “هو عمرنا المغلق بأقفال وجعنا”.
بأمل تختم: “سأفتح النوافذ وأكتب في ضوء نورها”.
بقلم: رولا عبدالله ١٩ سبتمبر ٢٠١٣ جريدة الاتحاد